لن نولي اهتماما لإعادات الترجمة التي لا تكون إلا "لعبة نشر" حيث تنتظر بعض دور النشر سقوط حقوق الترجمة كي تنقض على ما سبق أن تُرجم كي تعيد ترجمته، وفي بعض الأحيان من غير أن تولي الترجمات السابقة أي اهتمام. لا داعي إلى الإشارة إلى أن هذه الظاهرة أصبحت "مزدهرة" في عالمنا العربي، حيث لا يمكننا الجزم بأن ما يظهر من ترجمات "جديدة" له علاقة فعلية بما تقدمه، وأنه يأخذ عليه مآخذ بعينها، ويتجاوزه بشكل من الأشكال.
بعيدا عن هذه "الظاهرة"، نعلم أن إعادات الترجمة أمر يجري به العمل عند كثير من اللغات، والحية منها على وجه الخصوص. فلماذا تعاد الترجمة؟ الجواب المباشر الذي قد يتبادر إلى الذهن هو أننا إذ نعيد الترجمة، فمن أجل تدارك ما قد تكون الترجمات المتوفرة قد ارتكبته من "أخطاء"، وما قد يكون اعتراها من نواقص، مفترضين أن الأصول إن كانت تظل "شابة"، فإن الترجمات "تشيخ". يسلم هذا الموقف أن تاريخ الترجمة يعرف تقدما، وأنه بإمكاننا دوما أن ننجز ترجمة تفوق سابقاتها قيمة. لكن أكثر فرضيات هذا الموقف أهمية هو أنه يعتبر أن الأصول ثابتة لا تعرف حركة، ولا تتعرض لقراءات وتأويلات متحولة.
لأسباب متعددة سنفصلها فيما بعد، يبدو لنا أن توظيف مفهوم التقدم في تاريخ الترجمة ربما لا يستقيم. ولنبدأ أولا بالمسلمات التي تخص النص الأصلي. يزخر تاريخ الفلسفة، وتاريخ الأدب بنصوص لم تنفك تتحول. يكفي أن نذكر مؤلفات كافكا ونيتشه، التي وقعت في أيدي أقرباء المؤلفيْن، فخضعت لتحريف وتشويه في بعض الأحيان، وقُدمت لقارئها بأوجه متعددة.
بعض النصوص، حتى إن ظلت "سليمة" عند نشرها ولم تمسسها يد محرفة، فإنها تعرف تحولات كبرى في فهمها وتأويلها
غير أن من النصوص، حتى إن ظلت "سليمة" عند نشرها ولم تمسسها يد محرفة، فإنها تعرف تحولات كبرى في فهمها وتأويلها والقيمة التي تُعطى إياها، بل إن منها ما لم يفتأ يعرف قراءات متجددة. ليست قليلة الأمثلة على ذلك. يكفي أن نتذكر ما لقيته بعض نصوص فرويد أو ماركس، أو حتى هيغل، من تحول في المفهومات التي وظفتها، والأهمية التي اتخذتها، والقراءات التي خضعت لها. ولكي نكتفي بأمثلة من قراءاتنا العربية لتلك النصوص، لنتذكر كيف كنا لوقت غير قصير لا نرى فرقا بين الاغتراب الهيغلي والاستلاب الماركسي، وكيف كنا نفترض أن فرويد لم يكن يستخدم إلا المفهوم التقليدي للدافع النفسي. إذا كانت الترجمات تشيخ، فيظهر أن الأصول هي كذلك ما تفتأ تجدد حلتها. بل إن الترجمة تشيخ لأن الأصل يتحول.
لا غرابة إذن أن يترتب عن تحول الأصل تعديل ترجماته. ولعل هذا ما دفع فالتر بنيامين إلى أن يقول، إن النص، ما دام حيا، فهو يُترجم، وتعاد ترجمته. لذا علينا أن نستبعد الاكتفاء بالقول إن تعديل الترجمات يرمي أساسا إلى تجاوز "أخطاء" الترجمات السابقة. ربما ينبغي لفهم تحول الترجمات أن نتخلى عن الصواب والخطأ معيارين لجودة الترجمة أو رداءتها. فليست هناك ترجمات خاطئة وأخرى صائبة. ربما يمكننا أن نكتفي بالقول في هذا الصدد، إن هناك ترجمات غير ملائمة، وأخرى أكثر ملاءمة. ملائمة ليس للنص الأصلي فحسب، بل ملائمة للسياق الذي يظهر فيه، واللغة التي تُوَظف لنقله. إذا أردنا أن نستقي أمثلتنا من تاريخ الفلسفة لنأخذ ترجمات نصوص الفيلسوف ف. نيتشه إلى اللغة الفرنسية. لن نبالغ إذا قلنا إن لكل جيل من الفلاسفة الفرنسيين نيتشه الذي يناسبه. كان جيل العشرينات من القرن الماضي لا يرى أهمية إلا في كتابين لنيتشه أو ثلاثة، وكان ينفر من الكتَاب الذي سيكشف هايدغر فيما بعد أنه من "صنع" شقيقة نيتشه التي أعطته عنوان "إرادة القوة" مع ما أدى إليه ذلك من اتهام الفيلسوف الألماني بالقرب من النازية. فيما بعد سيعمل أدباء كبار مثل أندريه جيد على اكتشاف نيتشه آخر، سيبرزه إلى الوجود في فرنسا جيْل لوتريامان وجورج باتاي وموريس بلانشو الذي سيعمل على "تصحيح" قراءات النص النيتشوي. أما سارتر فقد بينت رفيقة دربه أنه لم يكن قد قرأ لنيتشه إلا كتابين. وعند بروز فلاسفة مايو/أيار 1968 سيعاد النظر في نشر كتب نيتشه وتبويبها، وترجمتها، وإعطاء بعضها عناوين جديدة، بل ونزع صيغة كتاب موحد عن بعض شذراتها.
لكل هذه السمات التي تطبع النص الأصلي، لا تكون إعادة النظر في الترجمات السابقة دوما بدافع إبداع ترجمة تفوق قيمة سابقاتها، وإنما فقط ترجمة تخالف سابقاتها، وتناسب اهتمام زمنها، والتحولات التي عرفتها بعض المفهومات. إعادة الترجمة لا تتم من أجل ترجمة أفضل، وإنما من أجل ترجمة ملائمة.
إعادة الترجمة لا تتم من أجل ترجمة أفضل، وإنما من أجل ترجمة ملائمة
بقي علينا أن نطرح سؤالا أخيرا: قلنا إن تاريخ الترجمات لا يعرف تقدما، فهل نستطيع أن نقول إنه يعرف "تجاوزا"، وإنه يلغي إلغاء تاما ما تم إنجازه؟ عندما نعيد ترجمة نص من النصوص، فهل تلغي الترجمة الجديدة سابقاتها إلغاء تاما؟ جوابا عن هذا السؤال، يمكننا أن نقيس الأمر على ما يسمى كتبا منحولة، أو ما يعرف بالأحاديث الموضوعة، حيث نتبين أن اكتشاف نص منحول لا يعفينا من الاهتمام به، ومعرفة مدى تأثيره على الفترة التي ظهر فيها، وعمل فيها كنص أصلي. أن تعمل تُساعية من تساعيات أفلوطين لمدة غير قصيرة على أنها نص أرسطي، فذلك لا يمكن ألا يخلف تأثيرا على تلقّي المعلم الأول، حتى وإن اتضح فيما بعد أن النص منحول. الأمر نفسه يصدق على الأحاديث الموضوعة حيث نعلم أن هناك كتبا تضم هذه الأحاديث، وتحفظها على أنها موضوعات، وربما ليس فقط لتمييزها عن الصحاح، وإنما أيضا لمعرفة ما قد كان لها من تأثير. هذا شأن بعض الترجمات غير الأمينة، فظهور ترجمات لاحقة لا يلغي ما كان لسابقاتها من تأثير، حتى ولو جرى تحول على أصولها. يكفي أن نسوق مثالا على ذلك ترجمات بعض نصوص ماركس إلى العربية في نهاية الخمسينات وبداية الستينات، وما كان لها من تأثير بليغ في تشكيل "العقيدة" الماركسية لدى بعض الأحزاب العربية، فرغم أن هناك قراءات وترجمات تجاوزتها فيما بعد، فإننا لا نستطيع أن نضرب عن سابقاتها الصفح، فلا نأبه بما كان لها من تأثير بالكيفية التي نُقلت إليها.
مجمل القول إذن هو أننا لا ينبغي أن نغفل بهذا الصدد مختلف الوضعيات التاريخية المتعلقة بفعل الترجمة: تاريخية النص المترجَم، وتاريخية القراءات وإعادة القراءات التي قام بها المترجمون، ثم تاريخية الآفاق الثقافية للمترجمين والقراء، ولكن كذلك القراءات التي تنكب على النص بعد ترجمته.