تلقى الفلسطينيون الذين يرزحون تحت الإبادة، ويكافحون من أجل التوصل إلى وقف لإطلاق النار والنجاة من الموت، صفعة عنصرية جديدة تمثلت في قرار عدد من الدول تعليق التمويل لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، معظمها من المتبرعين العشرين الكبار للوكالة (باستثناء اسبانيا ونروج وإيرلندا)، بعدما اتهمتها إسرائيل بإيواء موظفين ضالعين في هجوم "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول.
يشكل هذا القرار وجها آخر من سياسات العقاب الجماعي التي يشهدها العالم، بالتوازي مع قتل إسرائيل للمدنيين وتجويعهم في غزة، وشل إيران حركة الملاحة العالمية في البحر الأحمر، وإنهاك دول متأزمة اقتصاديا، والآن عقاب الدول المانحة للأونروا، مما يهدد "الأمن الإنساني" لنحو ستة ملايين لاجئ فلسطيني يستفيدون من خدماتها في فلسطين وخارجها، من دون انتظار نتائج تحقيق، ولو أولي، لصحة المزاعم الإسرائيلية.
جاء وقف تمويل "الأونروا" فور اعلان محكمة العدل الدولية قرارها في دعوى جمهورية جنوب أفريقيا ضد اسرائيل بتهمة ممارسة الإبادة الجماعية، الذي حمّلها مسؤولية تعريض حياة الشعب الفلسطيني للقتل الممنهج واتخاذ "إجراءات فورية وفعالة للسماح بتوفير خدمات أساسية ومساعدة إنسانية يحتاج اليها الفلسطينيون في شكل منح لمواجهة ظروف العيش غير الملائمة"، وأن "عليها أن تمنع كل أعمال الإبادة المحتملة في قطاع غزة".
لا شك أن "اغتيال الأونروا" فرصة لا تعوض لاسرائيل لتفكيك المنظمة تمهيدا لإلغاء وجودها المزعج الذي يذكّر دولة الاحتلال والعالم من خلفها بالنكبة
لا شك أن "اغتيال الأونروا" فرصة لا تعوض لاسرائيل لتفكيك المنظمة تمهيدا لإلغاء وجودها المزعج الذي يذكّر دولة الاحتلال والعالم من خلفها بالنكبة. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لم تبد تأييدا لهذا التوجه حتى الآن، يستند المتحمسون لفكرة ازالة "الأونروا" من الوجود، الى أنها ليست الوحيدة في تقديم خدماتها للفلسطينيين، بل هناك منظمات أممية أخرى كاليونيسف وبرنامج الأغذية العالمي ومفوضية شؤون اللاجئين، متناسين أن الأخيرة غارقة في لجج اللاجئين، من سوريا والسودان الى بوروندي وميانمار ودول كثيرة غيرها.
ماذا يعني "اغتيال الأونروا"؟
تناسى هؤلاء أن "الأونروا" هي "دولة اللاجئين الفلسطينيين" المهجرين قسرا من أملاكهم وأرزاقهم وبيوتهم وقراهم منذ 75 عاما. فهي كسائر الدول، تقدم الخدمات الاجتماعية على نحو يومي ودائم من تعليم ورعاية صحية وحماية اجتماعية وإغاثة وتحسين سبل العيش، بل تقدم أيضا التمويل المصغر (Micro Finance) لرواد الأعمال الفلسطينيين الطامحين إلى الارتقاء بأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية.
تعمل "الأونروا" بسواعد أكثر من 28 ألف موظف فلسطيني، إلى الموظفين الأجانب، لتوفير الحد الأدنى من الشعور الإنساني لهؤلاء اللاجئين. فبحسب التقييم الموضوعي، تكاد تكون "دولة الأونروا" متفوقة على نظيراتها من الدول في احتضان شعبها والمثابرة في تخفيف معاناته، على عكس ما نشهده في دول الغرب أخيرا من تحميل مواطنيها أعباء الأزمات الاجتماعية، ولا سيما الصحية والتعليمية، وسوء الإدارة والسياسات الخاطئة.
هل المنظمات الأممية الأخرى، التي تعمل وفقا لبرامج محددة فقط يرصد لها التمويل واليد العاملة، مؤهلة لتحمل قضية في حجم القضية الفلسطينية برمتها؟ بالطبع لا. ثمة لهذا التوجه الذي أرعب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، نتيجة واحدة هي مفاقمة معاناة الفلسطينيين والدول المضيفة لهم، لبنان وسوريا والأردن، على حد سواء، لما يمكن أن يثيره إضعاف دور "الأونروا" من أزمات ويدفع بالفلسطينيين إلى البحث عن موارد وأطراف أخرى تثقل كاهل هذه الدول وتزيد تململ مواطنيها من الوجود الفلسطينيي، خصوصا في لبنان حيث الأحقاد وذكرى الحروب والاقتتالات لا تزال ساخنة ونصب أعين عدد كبير من اللبنانيين الذين يرفضون اندماج الفلسطينيين في المجتمع اللبناني، لتوازنات معينة، منها سياسية وأخرى دينية طائفية مذهبية، وديموغرافية.
تعمل "الأونروا" بسواعد أكثر من 28 ألف موظف فلسطيني، شكلت نحو 7% من الناتج المحلي الفلسطيني لعام 2021، وحصة الفرد من موازنتها لا تتخطى 200 دولار
كما أن تلك الدول المضيفة تعيش أزماتها الاقتصادية الحادة، وتتخبط للحصول على تعويضات وتمويل مستدام يتيح استيعاب الزيادات السكانية الطارئة التي تحولت مستدامة.
حصة الفرد الفلسطيني
مثل الدول، لـ"الأونروا" موازنتها السنوية غير الثابتة التي تعمل على أساسها، والتي لا تتخطى المليار ومئتي مليون دولار بحسب أرقام 2022، أي ما يوازي نحو 7 في المئة من الناتج المحلي الفلسطيني لعام 2021، مع فارق وحيد، أن عجزها لا يمول من فذلكات مالية وسياسية ولا بطبع العملة، بل يبقى عجزا يدفع ثمنه اللاجئون الفلسطينيون فقرا ومستوى متدنيا من الرعاية والتعليم خصوصا، ناهيك بالبنى التحتية المهترئة والمساكن المتلاصقة والعمران العشوائي في عشرات مخيمات اللجوء عبر الدول الثلاث، إضافة إلى الداخل الفلسطيني، وخصوصا في غزة المدماة اليوم.
وفي حساب أبرز المؤشرات التي يقيّم على أساسها اقتصاد الدول، مثل الناتج المحلي للفرد، نجد أن حصة كل فلسطيني من موازنة "الأونروا" لا تتخطى 200 دولار في السنة، يحصل عليها اللاجئ على شكل خدمات، لا سيما التعليم والطبابة، ويصرف جزء يسير منها للمشاريع الطارئة، والجزء الأكبر، نحو 80 في المئة، لأجور الموظفين، أي ما يتلقاه الفلسطينيون من الوكالة زهيد للغاية ولا يؤمن لهم حياة كريمة، ويجد الفلسطينيون أنفسهم مهددين بخسارته إذا ما كرت سبحة توقف التمويل، بل قد يجدون أنفسهم أمام الحائط المسدود مع إعلان "الأونروا" أن موازنتها تكفي حتى نهاية الشهر الجاري فقط.
في هذا العالم إما أن تكون محبا لإسرائيل مثل فولوديمير زيلينسكي فتنتعش بالمليارات، وإما أن تكون مكافحا لكشف جرائمها فتبتئس
من يزور المخيمات يتلمس معاناة الفلسطينيين والظروف القاهرة التي يعيشون فيها ويضيع في متاهات البيوت المتلاصقة، وشبكات الصرف الصحي غير الصحية، وخطوط الكهرباء المتداخلة، والنظافة المعدومة في معظم الأحيان.
منذ 2021 تجتهد "الأونروا" لتحديث نشاطها وأساليب عملها، باعتماد التحول الرقمي لرفع جودة خدماتها، والحد من الفساد، مثل سائر دول الكوكب ومنظماته الانسانية.
لكن خدمات "الأونروا"، على أهميتها، لا ترقى إلى تلبية الاحتياجات الفعلية اليومية للفلسطينيين، بسبب نقص التمويل أصلا، هذا إذا أردنا أن نتحدث بلغة حقوق الإنسان العالمية التي تتشدق بها الدول الممولة.
الشيءُ بالشيء يُذكر على سيرة تمويل "الأونروا"، فقد فاض قبل يومين، سخاء الاتحاد الأوروبي بتخصيص 50 مليار دولار لأوكرانيا، وهو رقم مهول مقارنة باقتصادات عدد كبير من الدول وبحجم القروض، لا المساعدات، التي ترجوها دول أخرى حد التسول!
المساعي الإسرائيلية لإلغاء دور "الأونروا" ليست حديثة العهد، فهي، فضلا عن محاولتها مسح النكبة من الذاكرة، بالتأكيد ليس شعورا منها بالعار المرافق لهذه الذكرى مع ما نشهده من إمعان في القتل والتهجير في غزة، تعتبر دليلا تاريخيا على وجود الفلسطينيين وحقوقهم منذ بداية الاحتلال، وهي أحد عناصر صمودهم وتوارثهم القضية الفلسطينية من جيل إلى آخر. استهداف الاسرائيليين مرافق "الأونروا" في غزة حيث يحتمي النازحون من آلة القتل، ضاربين بعرض الحائط الصفة الأممية لهذه المواقع، خير دليل على الضغائن الكامنة والنيات المبيتة.
في هذا العالم إما أن تكون محبا لإسرائيل مثل فولوديمير زيلينسكي فتنتعش بالمليارات، وإما أن تكون مكافحا لكشف جرائمها فتبتئس.