بين ديكنسون وبلاث
-
لنبدأ من ترجمتك للأعمال الكاملة لإميلي ديكنسون التي صدرت أخيرا... المترجمون يختارون، غالبا، نصوصا سهلة، طيعة أمام الترجمة لهذا الكاتب او ذاك، ويتجنبون الأعمال الكاملة التي قد تضم نصوصا عصية على التعريب، لكنك تصديت للأعمال الكاملة لهذه الشاعرة، صاحبة تجربة "غاية في الصعوبة والتعقيد والإضمار والترميز". ما التحديات التي واجهتك خلال هذه المغامرة؟ ما الصعوبات التي تفرضها ترجمة الأعمال الكاملة على المترجم؟
كما أشرتَ في سؤالك، تتأتى الصعوبة من محاولة سبر أغوار أسلوب ديكنسون الصعب، والوعر، والمبهم، والمخاتل في كثير من الأحيان، وهنا يجب على المترجم أن يكون في أقصى درجات اليقظة والحذر، كي لا يضيع عليه، أو منه، خيط واحد من خيوط الدلالة المتشابكة، المبثوثة في ثنايا النص. دلالة المفردة في قصيدة ديكنسون ليست مشروطة بتعريفاتها القاموسية، ولا حتّى سياقاتها اللاهوتية والفلسفية والميتافيزيقية، بل تتعداها إلى ما هو أبعد، إلى معنى المعنى، وهنا يجب على المترجم أن يلتفت إلى ما يمكن تسميته "ظلال الدلالة"، مما يجعل عملية الترجمة مغامرة لا تخلو من الصعوبة، على الرغم من أنها لا تخلو من المتعة أيضا. شخصيا، يغويني كثيرا الأسلوب الصعب، الثريّ بالترميز، المترع بالتلميح، الذي ينطوي على فضاءات دلالية ورمزية ومجازية شاسعة، وهذا ما وجدته بكثرة في شعر إميلي ديكنسون.
أما عن تحديات ترجمة الأعمال الكاملة، فهي كثيرة، وأبرزها ضرورة إلمام المترجم العميق والشامل بكلّ جوانب الحياة الأدبية والشخصية والتاريخية للمؤلف، فضلا عن درايته المرهفة والفريدة بأسلوب الشاعر وطريقة فهمه للقصيدة، وعلاقته باللغة والميراث الأدبي، والمدارس النقدية، وسوى ذلك. في ترجمة "الأعمال الكاملة" لا يملك المترجم بذخ الاختيار، أو الحذف، أو الانتقاء، كما هي الحال في ترجمة "المختارات"، بل يرى نفسه ملزما-موضوعيا-بترجمة كلّ نثرة ومزقة وشذرة أدرجها الكاتب في أرشيفه الشعري، بدءا من الديوان الأول حتى الأخير. وهذا ما قمتُ به مع ديكنسون التي لم تنشر سوى القليل من قصائدها خلال مسيرة حياتها، وانتظر العالم طويلا قبل أن يرى أعمالها تُجمع وتُنشر تباعا بعد وفاتها.
-
قبل ديكنسون، ترجمت كذلك الأعمال الكاملة لسيلفيا بلاث، ماذا تخبرنا عن هذه التجربة بالمقارنة مع سابقتها؟
هما شاعرتان مختلفتان تماما في الرؤيا والأسلوب، النبرة والإيقاع، الحساسية والثقافة، ويفصل بينهما قرن كامل. ديكنسون تميل في شعرها إلى التكتم والابهام، وبلاث شغوفة بالبوح والمكاشفة. ديكنسون مقتصدة في مفرداتها كأنها تنحت في صخر، وبلاث سخية، متدفّقة، كأنّها تغرف من بحر. الألم لدى ديكنسون، فلسفي، وجودي، ولدى سيلفيا شخصي، ذاتي. في شعر ديكنسون صدوعٌ لا حصر لها، تتطلب من القارئ ثقافة أدبية عالية لفك شيفرة الإحالات والتوريات والرموز، وفي شعر بلاث انسيابية تعبيرية وغنائية آسرة. حين ترجمتُ سيلفيا، تمنيت أن أبقى في صحبتها وقتا أطول، أصغي إلى اعترافاتها، وأتلصص على أسرارها، إذ لا يجد القارئ صعوبة في الاستدلال إلى مفاتيح شعرها، وشخصيتها، وشعرها القائم على السرد والعاطفة المتأججة. مع ديكنسون، كان العبء أكبر، والمهمة أصعب، لأنّ شعرها مثخن بالغموض، أو ما أرغب بتسميته المعترضات اللغوية والفكرية والعاطفية، التي تتعمّد إحداث القطيعة مع كلّ انسيابية رومانسية، لأنّ عقلها مشغوف بأسئلة وجودية مرهقة عن الموت والعزلة والخلود والزمن والله، وسوى ذلك. صحيح أنني أعتبر ديكنسون الأعظم شعريا، وبما لا يُقاس ربّما، لكنّ صوت بلاث يظل عالقا في الذاكرة لفترة أطول، ربّما بسبب حضور المأساة في حياتها، ومحاولاتها المتكررة للانتحار مذ كانت فتاة مراهقة في منزل أهلها، مرورا بزواجها من الشاعر الإنكليزي الشهير تيد هيوز، ثم طلاقها منه، وانتحارها المأسوي في ذروة عطائها.
-
هذا الاختلاف الشاسع بين ديكنسون وبلاث يقودنا الى سؤال حول كيفية اختيارك لترجماتك. ما المعايير والشروط؟
أصف نفسي دائما بالقارئ "المُتْعَوي"، وهذه عبارة أستعيرها من بورخيس، لأنني لا بدّ أنّ أضع في الحسبان دائما معيار المتعة الجمالية الذي يوفره العمل الأدبي لي كقارئ أولا ومترجم ثانيا، وأجده شرطا ضروريا لقبول المهمة العسيرة التي اسمها الترجمة. أحيانا تُمضي أشهرا وسنوات منكبا على كتاب بعينه، فإذا لم يكن ممتعا، تصبح الترجمة جحيما لا تطاق. في النقد الأدبي، على سبيل المثل، اخترتُ هارولد بلوم لما يتميز به من ذائقة رفيعة، وثقافة أدبية عميقة، ورؤيا حداثية للنص الأدبي، ولأنه يوفّر لي تلك المتعة النادرة التي أبحث عنها دائما في كلّ كتابة. هذا ينطبق على معظم الشعراء والروائيين الآخرين الذين ترجمت بعض أعمالهم.
الخيانة الظاهرة
-
وفقا لأمبرتو إيكو، فان "الخيانة الظاهرة" للنص هي، في نهاية المطاف، "وفاء" لهذا النص. ما تعليقك أنت؟
هذا الرأي لإيكو يتقاطع قليلا مع ما قاله الشاعر الأميركي روبرت فروست الذي يرى أنّ الشعر الحقيقي هو ذاك الذي يضيع في الترجمة. فروست-العاشق للوزن والقافية-كان يعي استحالة ترجمة الأوزان من لغة إلى أخرى، وبالتالي عبّر، ربّما، عن خشيته من ضياع الشعر في الترجمة. بل إنه تحدث ذات مرة عمّا أسماه "إيقاع المعنى"، وهذا أيضا "يضيع" في الترجمة بسبب الاختلاف البنيوي والنحوي والصرفي بين لغة وأخرى. وقد يكون فروست على حقّ حين ننظر إلى ترجمات الشعر العربي الكلاسيكي إلى اللغة الإنكليزية مثلا، ونكتشف "ضياع" تلك العناصر الفريدة التي تقوم عليها القصيدة العمودية، وخاصة تلك المحسنات البديعية الخارقة التي نجدها مثلا في بيت شعري لامرئ القيس يقول: "مكرٍّ، مفرٍّ، مقبلٍ، مدبرٍ معا كجلمود صخر حطّه السيل من علٍ"، فكيف نترجم بيتا كهذا؟ ألن نخسر لا محالة الكثير من الإيقاع والزخم والروح، والموسيقى، كونها ببساطة عناصر عضوية تدخل تلقائيا في تركيبة وبنية اللغة العربية ونظامها الدلالي، بحيث يصعب، بل قد يستحيل، إيجاد بدائل لها في اللغة الأجنبية الجديدة. لكن الوضع يختلف تماما في ترجمة الشعر الحرّ، الخالي من الوزن والقافية، وتلك قضية أخرى لن أتطرق إليها الآن. مع ذلك، في قرارة نفسي، أجزم أن الدقة والأمانة والوفاء للنصّ الأصلي تظل معايير جوهرية لا يمكن التحايل عليها تحت أية حجج واهية، بغض النظر عن طبيعة النص وجنسه الأدبي، أو درجة صعوبته، والمفارقة التي يشير إليها إيكو في جملته تعني، كما أرى، أنّ أسوأ أنواع الترجمة هي تلك التي تتقيد حرفيا بالمعنى القاموسي فحسب. فالخيانة الظاهرة هنا تعني الابتعاد عن المقاربة الحرفية للمعنى الأدبي، واعتماد المقاربة الرمزية أو المجازية أو الدلالية، لأنّ اللغة الأدبية استعارية في جوهرها، وتنطوي على فضاءات دلالية شاسعة لا نجدها مثلا لدى "غوغل"، الذي بات المرشد الجديد لكثير من المترجمين العرب اليوم-ممن لم يدرسوا اللغة الإنكليزية أكاديميا-وذلك للتستّر على جهلهم باللغة الأجنبية، شكلا ومضمونا. "غوغل" يعطيك المعنى السطحي، الأولي، أو الحرفي، ويترك جانبا الدلالات الجوهرية الغائرة في نسيج النص، وخاصة الشعريّة منه. أعتقد أنّ إيكو هنا يتحدث عن ضرورة الابتعاد عن المستوى السطحي الأوّل للمعنى، أي الحرفي، والاقتراب-"الوفاء"-من الدلالة الرمزية الأعمق والأبعد، وعدم الوقوع في الابتذال والتشويه أو "الترجمة بتصرف"، كما يحلو للبعض أن يفعل.