في تاريخ الأدب فرق شاسع ومهيب بين الإلهام والاحتيال، ومع ذلك يبقى الاحتيال في انتشار، وبأشكال مختلفة، بدءاً من الاستيلاء على الفكرة ثم تقديمها بصياغة لغوية مختلفة، إلى الاستيلاء على عمل أدبي من صاحبه بالكامل،وتقديمه باسم آخر، إلى شراء قصيدة شاعر فقير مثلاً وبشكل مباشر مقابل حفنة من الدراهم، إلى أساليب أخرى.
ومن يراقب التاريخ يكتشف عدداً من أدباء حقيقيين كانوا في الظل، لصالح الآخر المعروف، خاصة في الشعر، نجد شاعراً يلقي الأعمال أمام جمهوره وهي أعمال تنسب فضل الكتابة لغيره، وكان هذا الشكل معروفاً منذ أيام الرومان في بلدان مختلفة، شرقاً وغرباً، إلى سرقة الحقوق بشكل عام، كسرقة التشريعات من بلد إلى بلد، مروراً بتقنيات اليوم التي تقوم بعمل بحث كامل من خلال الذكاء الاصطناعي دون جهد لطالب سيتوظف مستقبلاً في أروقة دولته وقطاعاتها المختلفة، وهو مجهود إلكتروني متاح.
وعودة للأدب وفتنته ونداءه الرحيب، فما مدى حدود العمل الأصلي والأصيل؟ إذ أن حدود الأصالة باتت مثيرة للجدل؟ ويتساءل البعض: هل من الممكن أن يظل المصدر الأصيل للعلاقات الأسرية المضطربة في الرواية مثلا، حكراً على الأخوة كارامازوف؟
ولعل ما جرى أخيرا للكاتبة التركية أليف شفق ومحاكمتهاعلى الفكرة المسروقة لروايتها "قصر البرغوث" من رواية "قصر الطيران" للروائية والصحفية التركية المشهورة مينا كيريكانات، سبب للتساؤل والنقاش، فبين الروايتين اثنتي عشرة سنة، لكن في الروايتين المختلفتين حجماً، تسرد الكاتبتين عن ذات الشارع في إسطنبول وبالتحديد في منطقة بيوغلو المتعددة بالألوان والثقافات، والعمارة ذاتها بنقوشها والمواصفات، وفي خمسة طوابق، وخمس شقق، يسكنها عشرة أفراد مختلفين مع عائلاتهم، وذات الشخصيات المهمشة في المجتمع، فتقدم شفق نظرة شاملة عن كل شقة، وتكشف كل حين حياتهم الكوميدية والمأساوية، ليبقى الاختلاف في العمق الدرامي والحبكة ومسار السرد واختلاف صوت الراوي، مع إضافة شفق شخصيات مغايرة للرواية، بينما المؤلفة مينا كيريكانات، المشهورة بكتابتها المقالات المثيرة للجدل في تركيا، تستعرض في روايتها هذه الشخصيات في المكان ذاته، مع تلك الهويات المجزأة يصل جميعهم إلى طريق مسدود بعلاقاتهم المعقدة، وبين الأمل وخيبته، وبين الفرح والحزن، يأتي أسلوبها غاية في البساطة لكن بحيوية وطلاقة.
رغم غنى المتخيل، بقيت الشخصيات المتشابهة في همومها، في المكان نفسه، وهي الفكرة الأساسية المشتركة بين الروايتين
ورغم غنى المتخيل، بقيت الشخصيات المتشابهة في همومها، في المكان نفسه، وهي الفكرة الأساسية المشتركة بين الروايتين، والمحاكمة كانت على سرقة فكرة العمل وليس على بقية الأدوات الإبداعية التي يختلف حولها القراء والمدافعين عن أليف شفق، بأن الروايتين مختلفتين، فالأدوات الإبداعية ونوع السارد العليم، واللغة وطريقة الاشتغال والعمق، كل شيء مختلف.
لا ريب في أن بعض "السرقات" يُشتغل عليها بصورة أو بأخرى، وليس كما يعتقد البعض بأنه القص واللصق. ومن هذا المنطلق وبين الاحتيال والإلهام، أوضح تأليف شفق بأن التشابه بين الروايتين ليس سوى إلهام، وأكدت أن هناك روائيين ومن مختلف اللغات والبلدان، كتبوا ما يشابه أحدهم في الجهة الأخرى من العالم، وهذا وارد.
وأمام هذا الدفاع أجد أن الإلهام هذاممكنٌ فعلاً، لكنه لا يحدث أبداً في ذات الوطن والمدينة والشارع والسكن والشخصيات المهمومة، مع ملاحظة كيف يخلط البعض بين فكرة الرواية وهي أساس العمل الابداعي، وبين بقية الأدوات المستخدمة في الرواية من حبكة ولغة وتشويق؟ وجيد أن المحكمة حكمت لصالح مينا كيريكانات وإن لم تكن روايتها بعمق رواية شفق، إنما تبقى الفكرة روح الرواية وأساسها، بل أصلها، وتأتي الفنيات الأخرىفيما بعد كما ذكرت.
وأخيراً، ومن باب الوعي، ففيمعظم فترات التاريخ لم تكن الكلمات والأفكار تعتبر ملكية، ولا يملكها من ينشئها كما هو اليوم، ببساطة الملكية الفكرية لم تكن موجودة، حتى عصر التنوير، ومع حقوق النشر والملكية، أصبحت السيطرة أكبر على النص الأصلي، ليتجدد الخلاف كلما عُثر على عمل مشابه لعملٍ مبدعٍ آخر، وبلا شك هي مهمة شاقة ومحرجة للمحاكم في سعيها للتمييز بين الإلهام والاحتيال في العمل الأدبي موضوع الجدل.