خلدون الشمعة (1941) ناقد سوري خوّلته مساهماته لأن يحتل مكانة مهمة في مشهد النقد الأدبي العربي. تتنوع مؤلفاته بين العربية مثل كتاب "الشمس والعنقاء"، "النقد والحرية"، "المنهج والمصطلح"، "المختلف والمؤتلف"، و"كعب آخيل"، واللغة الإنكليزية وآخرها كتابه الصادر هذا العام، "نظرية الأدب العربي الحديث".
"المجلة" حاورته للوقوف على بعض محطات نتاجه وأجزاء من الأسس النظرية التي تتمحور حولها أطروحات كتبه.
صدر هذا العام، كتابك الأحدث بالإنكليزية، "نظرية الأدب العربي الحديث – من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي"، الذي يدرس في جانب منه علاقة الآداب الأخرى بالأدب العربي، ما الخلاصات التي توصلت إليها في بحث تأثير الأدب العربي على الآداب الأوروبية؟
كتابي الصادر بالإنكليزية أخيرا الذي يدور حول نظرية الأدب العربي الحديث - من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي، مشروع استغرق مني إنجازه زهاء ثماني سنوات، وهو مبني على رسالتي للدكتوراه من جامعة لندن مدرسة الدراسات الشرقية والافريقية، وهو ثاني كتاب يرصد النظرية في الأدب العربي. والسبب الذي يدعوني لاعتباره الكتاب الثاني في ميدانه أن الكتاب الأول هو "منهاج البلغاء وسراج الأدباء" صنعة أبي الحسن القرطاجني، واللافت أن المنظّر هذا تتلمذ على ابن رشد، ولهذا نراه قد جمع في كتابه بين النقد والفلسفة (تماما كما هي الحال مع ت. إس. إليوت في الادب الحديث الذي أثر بدوره بطفرة الشعر والنقد صانع الحداثة العربية). من المعروف أن النقد والفلسفة في سياق الادب العربي عموما متنافران، درج الباحثون العرب على اعتبارهما ضدين، بينما تمكن القرطاجني من الجمع بينهما في الأندلس، فكانت حداثته معلما من معالم الحداثية العربية الأولى قبل زهاء ثمانية قرون. وقد اعتمد القرطاجني الذي اعتبره الباحث دبليو بي هينريك العمل النقدي الذي يتميز بالأصالة في الأدب العربي على أرسطو جزئيا وعلى أعمال كل من الفارابي وابن سينا.
يرصد كتابي الجديد الانقلاب الحداثي الذي يعود بتاريخه إلى ظهور الشعر الحديث، وبالتحديد إلى ما أطلق عليه التموزية النقدية
خلاصة القول إن كتابي الجديد يستفيد كثيرا من تخصصي المبكر بالأدب والفلسفة. فهو يرصد رصدا نقديا وفلسفيا الانقلاب الحداثي الذي يعود بتاريخه إلى ظهور الشعر الحديث، وبالتحديد إلى ما أطلق عليه التموزية النقدية. فمنذ أن ترجم جبرا ابراهيم جبرا فصل "أدونيس" المدرج في كتاب "الغصن الذهبي" للسير جيمس فريزر، اتجه الشعر والنقد في الثقافة العربية إلى الأسطورة التموزية. ينبغي الإشارة هنا إلى أن إليوت استقى الرموز والبنية في قصيدة "الأرض اليباب" من كتاب جيسي ويستن، "من الطقوس إلى أدب الرومانس"، وكتاب "الغصن الذهبي" لفريزر، وقد اشتهر كتاب الأخير بالعربية بعد ترجمة جبرا لفصل "أدونيس"، وتواكبت هذه الشهرة مع ذيوع شهرة فريزر حاملا الفكرة القائلة إن كتابه الذي اعتبر آخر انثروبولوجي من العصر الفيكتوري لم يكتف باعتبار الأساطير متساوية من حيث القيمة، بل جذب انتباه كل من الشاعر الناقد إليوت، والفيلسوف لودفيغ وينغشتاين، وعالم النفس فرويد. هكذا يمكن القول إن فريزر تجاوز تأثيره الأنثروبولوجيا إلى الشعر والنقد. والملاحظ، كما يشير مؤلفا كتاب تاريخ الأنثروبولوجيا، أن الأنثروبولوجيين لم يتابعوا فريزر في أبحاثه.
ما أريد قوله هو أن نقطة المحرق في كتابي هي تقديم قراءات ذات منزع فلسفي للانعطافة التموزية التي ساهمت في بروز النزعة الكونية التي تنظر إلى الأدب من خلال عالميته، أي ارتباط واحدها مع الآخر. ويبدو لي أن نتاج ابن عربي في حاجة الى قراءة جديدة على ضوء ما اعتبره بعدا كونيا في شعره ونثره ومبدأ وحدة الوجود الذي يقول به:
رأى البرق شرقيا فحنّ إلى الشرق
ولو لاح غربيا لحنّ إلى الغرب
فإن غرامي بالبروق ولمحها
وليس غرامي بالأماكن والترب
ربما كان مصطلح الأدب العربي في تعدديته، أساسا لهذه الكونية التي تتحقق من دور المكان لصالح الزمان.
أعود الى بؤرة كتابي لأبين أن التحول من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي، هو تحول من مصطلح الـ Criticism إلى مصطلح الـ Cultural Critique المستمد من الفلسفة، وفي هذا المعنى يكون النقد الثقافي تعدديا. مصطلح Critique الفلسفي تعددي (أي يربط بين مختلف الآداب المتقاربة بفعل الترجمة من وإلى) شأنه شأن المصطلح النقدي لدى الفيلسوف كانط على سبيل المثل.
بين كتاب "المختلف والمؤتلف-تمثيلات المركز الغربي والهامش العربي وشيطنة الآخر"، و"كعب آخيل-النقد الثقافي والنقض المعرفي"، وفي مضمونهما تأسيس نظري لفعل النقد النصي، هل يمكن اعتبارهما مشروعا فكريا متصلا أغلقتَ فيه دائرة من دوائر البحث، أم ثمة تمايز ما بينهما لا بد من أخذه في الاعتبار؟
الحقيقة أنَ من الأفضل الحديث عن مشروع فكري متصل. وبدلا من الكلام عن إغلاق دائرة من دوائر البحث، أو الكلام عن تمايز بين هذا العنوان وذاك، أفضل التركيز على خصيصة التداخل بين أقسام مشروع فكري يلح دائما على ما أسميه بالحقيقة المعرفية بأداتها التي تستند إلى التحليل العلمي الموضوعي. هذا التحليل لا بد أن تكون غايته الوصول إلى الحقيقة التاريخية الواهنة الحضور للأسف الشديد. أكرر هنا أن الأدلجة سقوط من خارج الحقيقة. الأدلجة تظل مغايرة للحقيقة التاريخية.
في كتابي "المختلف والمؤتلف-تمثيلات المركز الغربي والهامش العربي وشيطنة الآخر"، تدشين اعتبره أحد النقاد تدشينا ماكرا لاستكمال أطروحة إدوارد سعيد، بالتركيز على علاقة المركز الغربي بالهامش العربي. الهامش العربي هنا هو المؤثر على المركز الغربي. وأحد الأمثلة البارزة على هذا التأثير قصة "الإمبراطور العاري" التي تنسب عادة إلى كاتب دانماركي من القرن التاسع عشر هو هانز كريستيان أندرسن. هذه القصة البارعة والمتميزة هي في الحقيقة حكاية مغربية ترجمت من العربية إلى اللاتينية في القرن الحادي عشر. وهناك أمثلة أخرى في كتابي معاكسة لنظرية إدوارد سعيد، لكنها غير مكتشفة، أو تحتاج إلى من يميط عنها اللثام.
في الكتاب، فضلا عن ذلك، مثال عما دعوته بشيطنة الآخر. نحن غارقون في شيطنة المركز الغربي، أي أننا ضحية شيطنة يمكن تقريبها بما دعوته بـ"العصرنة والغربنة"، وأود أن أذكر هنا أن "عصرنة" هي الكلمة التي شاعت بدءا من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، الفترة التي بدأ فيها تشكيل مخيال جمعي عربي. هذا المخيال نشأ تحت وطأة الشعور بهيمنة النزعة المركزية الأوروبية.
هذا الشعور بتلك الهيمنة، شعور الهامش في مواجهة المركز، لم يكن يقبل بتسمية الأشياء بأسمائها. لم يكن ليعترف بأن المحمول المعرفي للعصرنة هو نفسه المحمول المعرفي للغربنة. وهكذا صار القول بالعصرنة بدلا من الغربنة، وبالتالي مواجهة تبعات المعنى الحقيقي للعلاقة مع الآخر، ضربا من خداع الذات العربية لنفسها.
في كتابي "كعب آخيل: النقد الثقافي والنقض المعرفي"، محاولة لتطوير معنى النقد الثقافي الذي يصبح فيه النقد نقضا عندما يستحيل إلى نقض مُعرَف، وهذا هو معنى النقد بلغة الفلسفة. الدائرة لم تغلق بعد.
استكمالا في علاقة الغرب بالشرق وعلاقة العرب بالآخر، هل يمكننا وضع مشروعك الفكري في إطار مواجهة ما عبرتَ عنه أنه "نَمذَجة وقولبة مستمرة للرأي العام الغربي، ومحاولة تقديم صورة جاهزة ومُسبَقة الصنع في ما يتعلق بالعالَمين العربي والإسلامي؟
ما أسميتهِ بمشروعي النقدي هو في تقديري معادلٌ لجرحٍ نرجسي غائر في الحالة العربية. صحيح أن هذا الجرح النرجسي ناجم عن السبق الحضاري الذي حققه الغرب قياسا إلى الشطر غير الغربي، إلا أنه يبدو في الحالة العربية كما يوصف عادة، يبدو قيد تفعيل مضاعف. أي أنه ناجم عن فشلنا في حرق المراحل الحضارية من جهة أولى، ونقل الصراع الأيديولوجي بفعل هذا الفشل إلى ساحة التراث العربي.
ما أعنيه بذلك كله، أن مواجهة النمذجة والقولبة المستمرة للرأي العام الغربي، أي إفشال ما أدعوه بالتنميطات السلبية التي تقوم بها المركزية الغربية للعالمين العربي والإسلامي، ربما كانت تمثل نقطة المحرق في مشروعي النقدي.
الجواب عن سؤالك حول ما إذا كان الغرب قد خطا خطوات حقيقية للخروج من هذه الشعبوية المشبعة بالانحياز، ربما بالاستجابة لدعوات باحثين من أمثال ر. و. سذرن وآخرين، هو أن الغرب قد خطا فعلا على صعيد إبراز الحقيقة التاريخية الشاملة في الجامعات ومراكز البحث، لكن الحقيقة التاريخية لم تصل بعد إلى النطاق الغربي الشعبي العام لأسباب تتعلق بالسياسة والصراع الأيديولوجي من جهة أخرى.
هذه الحقيقة حيل بينها وبين الوصول إلى القارئ الغربي بفعل السياسة والأيديولوجيا وسيطرتهما على الإعلام الغربي. ودليلي على ذلك، الكلام عن الكثيرين من الباحثين من أمثال مارتن برنال في "أثينا السوداء" وجورج غودي في كتابيه "سرقة التاريخ" و"الشرق في الغرب"، وكذلك جون هوبسون في كتابه "مفهوم المركزية الغربية في السياسة العالمية".
لا شك أن جيلنا، جيل هزائم حرق المراحل، سواء بسلاح القومية أو بسلاح الماركسية، يعي جيدا ما قاله الباحث البريطاني الكبير جون أرنولد توينبي، صاحب نظرية التحدي والاستجابة، عن ابن خلدون، ما زلت حتى الآن أذكر أنه أشار في دراسته ذات الاثني عشر جزءا حول نشوء الحضارات وانهيارها، إلى أن مقدمة ابن خلدون: "بلا شك أعظم عمل من نوعه اخترع من قبل أي عقل في أي زمان وأي مكان".
نحن غارقون بشيطنة المركز الغربي، أي أننا ضحية شيطنة يمكن تقريبها بما دعوته بـ"العصرنة والغربنة"
ما أود قوله هو أن حقيقتنا التاريخية كما يبين مفهوم ما بعد الحداثة، المفهوم الغربي، تفضي إلى أن إعادة اختراع التاريخ جزء من نزعة تمجيد الشعر والموسيقى في حياتنا اليومية. ليست إعادة اختراع التاريخ خصيصة مفردة بأدبنا العربي، بل خصيصة من خصائص العالم الغربي أدبا وشعرا.
ويمكن القول، تأسيسا على ذلك، إن إعادة اختراع التاريخ هذه تمثل في نقطة محرقها خبرة مشتركة بين جميع الحضارات. يستتبع ذلك أن الأنثروبولوجيا في مثالها المستمد من كتاب "الغصن الذهبي" للسير جيمس فريزر الذي اعتمدته الانعطافة التموزية في الشعر العربي الحديث، قد نظرت إلى الأسطورة من موقع المساواة بين الحضارات. والحضارات في حقيقتها أساطير تتكرر. أساطير تمحي وتنعطف وتستعاد.
موقفك من الشعر العربي الحديث وطرحك لمصطلح "الحداثة الثالثة" وغيرها من العناوين، فضلا عن نقد مصطلح "قصيدة النثر" التي تُفضل ان تُسمَى بـ"القصيدة الحرة"، هو موقف ضمنته تقديمك لمختارات من شعر الشاعر السوري نوري الجراح بعنوان "رسائل أوديسيوس"، ولكن إلى أي مدى يمكن تعميم هذه الخلاصات وهناك عناوين أخرى تضمنتها التقدمة كـ"الشعر الكينوني" أيضا، على تجارب شعرية عربية أخرى؟
ما أودّ أن أدعوه بـ"الحداثة الثالثة"، أي الحداثة المتحررة كليا من أنظمة الكلام أو العروض أو التفعيلة أو الإيقاع كما ألفناها مع شعر سابق، وهو تعريف غير مُقيَد، ويساهم بشكل أو بآخر في عملية تذوق الشعر الجديد في "رسائل أوديسيوس". هذا الشك في علاقة النص الشعري بمصطلح "قصيدة النثر" ليس انتقاصا من قيمة قصيدة نوري الجراح بل هو دفاع عنها وتجنب للخفة النقدية المتمثلة بالمحمول المعرفي الأيديولوجي المنزع، الذي ينطوي عليه مصطلح "قصيدة النثر" في الثقافة العربية.
من جهة أخرى تحملنا هذه التجربة الشعرية على استعادة كلام هوميروس في "الأوديسه" عن المهاجرين السوريين إلى اليونان، أنهم "عمال عموميون" وقد قصد بهم الحرفيين المهرة الهيلنستيين، وليس الهيلينيين (اليونان). وهؤلاء الحرفيون دشنوا دورا مركزيا في صناعة الثقافة اليونانية في عصرها الهيليني، وهم يجمعون بين "العراف، والطبيب مضمد الجراح، وبين النجار والمغني الإلهي"، هؤلاء بلغة هوميروس الشاعر هم قطب علاقة الاتصال، المد والجزر، التأثر والتأثير، بين الثقافة الإغريقية ومصادرها السورية القديمة.
في استعادته البديعة لتراث حضاري مشترك يفتح نوري الجراح الهامش على المركز والمركز على الهامش في سيرورة إرث ميثولوجي متوسطي متصل ومتواصل. هنا ثمة نموذج لما يهمني فكريا في عمل الشاعر. فضلا عن أن الشاعر النسَّاج لا يحرر النص من النص، بل يستعيد عبر هوميروس أصوات مقتلة دمشق، عبر تقنية ما بعد حداثية يتقاطب فيها اليومي السوري والأسطوري الإغريقي.
انطلاقا من تجربتك ومن خلال متابعتك لمنجزات النقاد العرب اللاحقين، هل لاحظت أنَ هناك حالة بناء لدى نقاد الأدب الجدد على ما سبق من مساهمات؟
- نقاد الأدب الجدد الذين بنى بعضهم على مساهماتي، كان أكثرهم من تونس على وجه التحديد. وأذكر من هؤلاء ناقدين متميزين: الأول الأستاذ الناقد عبد السلام المسدي، والثاني الأستاذ الناقد توفيق الزيدي الذي أصدر في العام 1984 كتابه "أثر اللسانيات في النقد العربي الحديث من خلال بعض نماذجه". وقد خصص الزيدي كتابه للبناء على كتابين لي هما "الشمس والعنقاء"، و"النقد والحرية". وفي هذه الدراسة صبا الناقد إلى رفع الحواجز بين النقد واللسانيات من جهة، وبين النقد وبقية العلوم من جهة أخرى. كما حاول (مثلما يشير) إماطة اللثام عن "مجرى نهر النقد ومدى مساهمة الروافد في ارتفاع منسوبه". أما المراجعات النقدية في مجلات الجامعات العربية فكثيرة يصعب حصرها في هذا الحوار.
تبقى الإشارة إلى ردود الفعل التي تدشن اللحظة الأيديولوجية الطاغية بكل مسبقاتها وإسقاطاتها وعماءاتها ويمثلها كتاب "الأدب والايديولوجيا في سوريا" لنبيل سليمان بالتشارك مع أبو علي ياسين، وقد خصصاه لنقد النقد الأدبي. والنقد في هذا الكتاب بلا حقيقة تاريخية. وكما يقول أحدهم: في حالة الإزاحة تسقط عليه "الحقيقة" من خارجه، وفي حال الاستبدال ينزل هو نفسه منزلة الحقيقة المطلقة، أي اللاتاريخية.
في الستينات والسبعينات من القرن الماضي كنت شخصيا، كما أشرت، في موقف مغاير لمواقف النقاد الذين روجوا لنظرية الأدب الاشتراكي التي شاعت عربيا. سقطت النظرية قبل أن تُولد، فهل حصلت مراجعة لتلك الأفكار من قبل أصحابها؟ كلا للأسف، لم تحدث مراجعة. ولكي لا أعمم بلا أدلة، أشير تحديدا إلى رسالة وصلتني قبل أعوام من الشاعر السوري شوقي بغدادي يقول فيها إن الكتّاب الماركسيين السوريين كانوا عموما غير مثقفين. باختصار كان ينظر إليّ في الأوساط الأدبية لتلك الآونة نظرة تحفظ نحو مثقف ليبيرالي في ظل مناخ ثوري زائف تقترب ممارسات المتنفذين فيه في بعض الحالات من الجدانوفية.
حقيقتنا التاريخية كما يبين مفهوم ما بعد الحداثة، تفضي إلى أن إعادة اختراع التاريخ جزء من نزعة تمجيد الشعر والموسيقى في حياتنا اليومية
تعيش في لندن منذ نصف قرن، ما الذي حملك على الهجرة وقد كنتَ كناقد ومُنظّر للنقد فاعلا في الحياة الثقافية السورية والعربية؟
شيطنتي أو أبلستي على صعيد ثقافي لم يقيض لها النجاح. أقصد سيطرة النزعة الفاشية آنذاك، باسم ماركسية بائسة لم تنجح. كنت، آنذاك، كما تقولين، ناقدا ومنظّرا فعالا في الحياة الثقافية في دمشق وبيروت والقاهرة، وللوهلة الأولى على الرغم من شهيق هنا وزفير هناك، لا يبدو أن ثمة أسبابا قاهرة للهجرة والنزوح.
"نجا سعد هلك سعيد"، عبارة طاردة المنزع تختزل موقف أستاذي وصديقي أنطون مقدسي خلال سبعينات القرن الماضي. كان مقدسي لأسباب لا مجال للتعرض لها الآن، مُقرّبا من رأس السلطة، ولهذا التمست رأيه في رسالة اعتزمت توجيهها إلى الرجل الأول. موضوع الرسالة شكوى من قيام شبيحة شقيقه رفعت بإشهار بنادقهم في حلقة مهددة أحاطت بي وبأسرتي في ليلة من ليالي دمشق المقمرة على أوتوستراد المزة في شهر يونيو/حزيران. آنذاك تمكنت وأسرتي من الإفلات من سكارى مسلحين بمعجزة لا يسمح الحيز المفرد لهذه الاستعادة الموجزة بسردها بشيء من التفصيل.
قبل هذا الحادث بشهور كنت والأستاذ مقدسي عضوين منتخبين في المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب. وقد أتاح ذلك فرصة اللقاء برأس السلطة عن كثب. أذكر من حديثه الذي جرى في قاعة مغطاة بالستائر السميكة من كل طرف، قوله: لا رقابة على الفكر سوى رقابة الضمير، وأذكر جانبا كوميديا من المقابلة أعقب سؤالا وجهه أنطون مقدسي حول المقاومة الفلسطينية أجاب عنه الأسد قائلا: "الأبوات"؟
المقصود من هذا السؤال المعاكس، الإحالة على كلمة "قبوات" التي تعني بالعامية الشامية طبقا من الطعام. من الواضح أن الكلمة كوميديا سوداء تسخر من الطرف موضع السؤال وقادته. وقد قهقه وفد اتحاد الكتاب -طائعا أو غير طائع- لدى سماع الجواب الذي قطعت فيه جهينة قولَ كل خطيب.
وقائع كثيرة عن القمع الثقافي ومصادرة اللسان، والتمييز المناطقي والفساد الإداري انطلاقا من ترفيع كل ما هو عسكري على حساب ما هو أهلي، والعدوانية المفرطة نحو رجل العلم ورجل الفكر، وصاحب الرأي في ملكوت الطغيان الذي حكم سوريا، على إثر انقلاب قاده عسكري أسود القلب اسمه حافظ الاسد، أسس لدولة الطغيان، هو ما حملني أخيرا على مغادرة البلاد بلا عودة قبل أن يشتد الخطر ويتحول إلى سمة تحيق بالأفراد في ما سمّي بجمهورية الخوف.