تصعيد البحر الأحمر... مغامرة غير محسوبة أم توازن قوى جديد؟

تصعيد البحر الأحمر... مغامرة غير محسوبة أم توازن قوى جديد؟

يقامر الحوثيون مرة تلو أخرى ويتحركون في مساحات اللامعقول. والأعجب أنه في كل مرة تسير أمورهم بشكل جيد مما يثبت صحة ووجاهة اللامنطق السياسي الذي يعتمدونه، كما يعزز من قناعاتهم الغيبية حول فكرة التمكين الإلهي.

حذر الجميع الحوثيين بمن فيهم حلفاؤهم الإقليميون من مآلات التوجه نحو السيطرة العسكرية الكاملة على العاصمة صنعاء في سبتمبر/أيلول 2014، ثم من خطورة خيارهم نحو التصعيد ضد بقية القوى السياسية وتقويض العملية السياسية الهشة التي صاغها اتفاق السلم والشراكة في انقلابهم الشامل في يناير/كانون الثاني 2015، وغيرها من مواقف سياسية متتالية كانت تبدو نتيجة عناد وغياب للمنطق السياسي لصالح الخرافة السياسية والسلاح، لكنها أدت في نهاية الأمر لتسيد منطق الحوثي، منطق الغلبة واللاسياسة فيما بدا نجاحا له في حكم أجزاء واسعة من اليمن وتشديد قبضته عليها لتطبيق تصوراته السياسية العقائدية.

الجهل بالحوثيين وعقائدهم لعب دورا أساسيا في التخفيف من خطورة توسعهم العسكري إضافة للتصالح التاريخي لدى اليمنيين مع فكرة العنف، ما سهل من دخولهم صنعاء.

وعندما بدأ إدراك خطوة المقامرة الحوثية، كان الوقت قد تأخر وسط مشهد سياسي فوضوي، أطرافه متبلدة وضعيفة أمام جماعة عقائدية متطرفة وشابة ولا تفتقد روح المبادرة كحال خصومها الضعيفين والمفككين.

هذه المرة امتدت المقامرات الحوثية إلى خارج اليمن وبدأت أول الأمر بهجمات صاروخية نحو إسرائيل بدت رمزية إلى حد كبير لإثبات عضويته في ما يعرف بـ"محور المقاومة"، لكنها انقلبت جدية عندما بدأ يهاجم البحر الأحمر وهو ممر مائي دولي شديد الحيوية ويحتجز أول سفينة "غلاكسي ليدر" منذ منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

اتسعت هجمات الحوثي وصارت أكثر عشوائية في استهدافاتها وخلقت أزمة اقتصادية عالمية

برر الحوثي هجماته بالضغط لأجل وقف حرب غزة واكتسب شعبية هائلة خارجيا. أما داخليا، فقد خلق هذا التصعيد مشاعر متضاربة لدى خصومه لأنه لمس وترا حساسا لدى اليمنيين وهو تعاطفهم المطلق مع القضية الفلسطينية في وقت يقفون فيه بالضد في مواجهة معتقدات الحوثي وممارساته، بينما خلقت زخما غير عادي في أوساط الجماعة وامتد لبعض المناطق، خاصة القبلية في الشمال، مما أدى لزيادة ملحوظة في التجنيد.
ولا أرى داعيا للتشكيك في دوافع الحوثي العقائدية التي تقع القضية الفلسطينية في قلبها، كما أنه يحمل تلك العاطفة القومية والدينية تجاه الفلسطينين مثل سائر اليمنيين، حتى لو بدا الأمر متناقضا مع انتهاكاته الجسيمة تجاه اليمنيين، فالحوثي يتحدث عن رفع الحصار عن غزة في وقت لا يزال للسنة التاسعة يحاصر مدينة تعز بعدد سكانها الذي يتجاوز مليوني نسمه، لكن هذا النمط من التناقضات الأخلاقية في منطقتنا أمر رائج وله علاقة بعدم وجود توافق على أخلاقيات أساسية للممارسة السياسية وطبيعة التفكير الانتقائي جراء غياب المنطق والمعقولية وتفشي التعصب والاستقطاب.
اتسعت هجمات الحوثي وصارت أكثر عشوائية في استهدافاتها وخلقت أزمة اقتصادية عالمية وصارت خرقا صريحا للقواعد الدولية المتعارف عليها في أمن الملاحة الدولية في وقت ترفض فيه القوى الكبرى وعلى رأسها أميركا الارتباط الواضح بين هذه الهجمات وحرب غزة، فلم يسبق أن هدد الحوثي الملاحة من قبل. لذا، عوضا عن الضغط على إسرائيل ووقف السبب الرئيس في التوتر الحالي للمنطقة وهي حرب غزة والتي تعطي غطاء أخلاقيا وسياسيا ضروريا لهجمات الحوثيين وغيرها من أشكال التصعيد العسكري التي تهدد بحرب إقليمية شاملة، قررت الولايات المتحدة تشكيل تحالف دولي لضرب الحوثيين.
ومع مرور الوقت بدأ يتصاعد الشعور لدى الأميركيين وشركائهم بأن تلك الضربات الجوية ليست كافية وهذا أمر حذر منه كل العارفين بالشأن اليمني، فالجماعة صارت معتادة على مواجهة هكذا نوع من الضربات الجوية ولن تردعهم عن المزيد من الهجمات، لذا بدأ يتزايد الحديث حول تصعيد العمليات العسكرية لتصبح مواجهة برية بقوات يمنية ضد الحوثي لدفعه بعيدا عن السواحل وحصره بالجبال.

بوجود بديل سياسي ناجح أمام الحوثي يمكن ترجيح الكفة كليا لغير صالحه

ومن المفارقة أن القوات اليمنية الشرعية كانت قريبة بالفعل من التقدم للاستيلاء على الساحل عام 2018، لكن الضغط الغربي الذي تزعمته الولايات المتحدة وبريطانيا كان السبب في وقف هذه العملية العسكرية، فقد كان هناك مجددا جهل واضح بالحوثي وخطورة معتقداته ومنطق المقامرة لجماعة اعتادت التصرف كمن لا يخشى خسارة شيء ولا يستشعر مسؤولية السلطة تجاه الملايين الذين يقعون تحت سيطرتها.
ويظل سيناريو القتال البري لانتزاع ميناء الحديدة هو الأكثر كابوسية لدى الحوثيين لأنها تعني عزلهم دون منفذ على العالم وحرمانهم من مصدر دخل مادي هائل يوفره لهم ميناء الحديدة، لذا بعيدا عن التصعيد الكلامي لبعض عناصرهم ومنطق الرد على الضربات الجوية بالمزيد من الهجمات على السفن، هناك إشارة متكررة من زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي بخفض سقف مطالبهم لدخول المساعدات فقط لغزه وليس وقف الحرب في محاولة لإيجاد مخرج لحفظ ماء الوجه.
وفي المقابل، بدأ خصوم الحوثيين- مثل عيدروس الزبيدي رئيس المجلس الانتقالي، ورشاد العليمي رئيس مجلس القيادة- يصرحون باستعدادهم للانخراط في هكذا عمليات متجاهلين السياق الإقليمي لحرب غزة والمشاعر الشعبية الداخلية المتضاربة، لأنهم وجدوها فرصة لخلق توازن جديد بالقوى العسكرية والسياسية قد يمكنهم من تحسين وضعهم دوليا.
سيناريو التصعيد العسكري ستكون كلفته البشرية والاقتصادية على اليمن هائلة في معركة سوف يستميت بها الحوثي مقابل قوة عسكرية يصعب هزيمتها في حال كان الدعم الدولي لمعسكر خصوم الحوثي كبيرا. أما سيناريو التهدئة ففيه أيضا إشكالية، وهي أنه لا شيء يضمن عدم تكرار هجمات الحوثي، لأي سبب من الأسباب، أو ضمن ارتباطاته الإقليمية مع إيران. 
هذه الهجمات أدت لتحول في نظرة العالم نحو الحوثي بأنه ليس مجرد لاعب محلي أقصى خطورة له قد تكون في ضرباته الصاروخية لدول الخليج مما قد يدفعها للمزيد من التسلح، بل قد يكون لاعبا دوليا وإقليميا مؤثرا يمتلك ورقة ضغط شديدة الخطورة هي تهديد الملاحة الدولية.
أيا كانت مآلات التصعيد العسكري في البحر الأحمر سواء اتجهت نحو التهدئة مع الحوثي من خلال الاستجابة لسقف مطالبه الذي انخفض، أو بالتصعيد العسكري بشكل يتجاوز مجرد الضربات الجوية لدفعه بعيدا عن الساحل نحو الجبال، تظل المشكلة الأكبر في مواجهة الحوثي قائمة وهي عدم وجود منطق سياسي واخلاقي بأبعاد وطنية في مواجهة الخرافة الحوثية وغياب ممارسات احترام القانون والدولة في مواجهة الهمجية. بوجود بديل سياسي ناجح أمام الحوثي يمكن حينها فقط ليس مجرد خلق التوازن الذي يطمح له معسكر خصومه بل ترجيح الكفة كليا لغير صالح الحوثي.

font change