إحدى السمات المميزة للصراع الطويل الأمد بين الولايات المتحدة وإيران على النفوذ في الشرق الأوسط، هي رغبتهما في تجنب المواجهة المباشرة بأي ثمن. وقد تجلى ذلك في كل المراحل من احتجاز الرهائن الأميركيين أثناء اقتحام السفارة الأميركية في طهران عام 1979، إلى الصراعات الأحدث في العراق وأفغانستان، حيث تمكن الخصمان من تجنب التورط في نزاع مباشر.
وحتى هجوم هذا الأسبوع الذي شنته ميليشيا مدعومة من إيران على قاعدة أميركية شمالي الأردن، تمكن الجانبان من الالتزام بقواعد الاشتباك نفسها التي سادت عقب هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول على إسرائيل.
وفي حين أن الهجمات على إسرائيل، الحليف الوثيق للولايات المتحدة، نفذتها "حماس"، الحركة الفلسطينية التي تعتمد كثيرا في دعمها العسكري والمالي على طهران، تمكنت إيران من إقناع العالم الخارجي بعدم تورطها، وضمنت بالتالي أنها لن تصبح هدفا للانتقام.
إيران تبدي إحجامها عن الانخراط مباشرة في الصراع، لكنها تشجع حلفاءها في المنطقة على تصعيد التوترات بمهاجمة أميركا وحلفائها
في الواقع، كانت طهران حريصة جدا على النأي بنفسها عن هجوم "حماس"، حتى إن المرشد علي خامنئي أوضح خلال اجتماعه مع زعيم "حماس" إسماعيل هنية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أن إيران لن تنخرط في حرب غزة لأن "حماس" لم تخبرها مسبقا بنواياها.
سوى أن إيران وإن أبدت إحجامها عن الانخراط مباشرة في الصراع، لم يمنعها هذا من تشجيع حلفائها في المنطقة على تصعيد التوترات في المنطقة بمهاجمة الولايات المتحدة وحلفائها.
ومنذ أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، شنت الجماعات المدعومة من إيران هجمات على القواعد الأميركية في سوريا والعراق، في حين أدى التهديد المستمر لهجمات "حزب الله" من جنوب لبنان إلى ترك مساحات واسعة من شمال إسرائيل مهجورة. وفي الوقت نفسه، تسببت الهجمات التي نفذها المتمردون الحوثيون في اليمن على السفن التجارية في البحر الأحمر، في تعطيل كبير لأحد طرق التجارة الرئيسة في العالم، مما أثار المخاوف من أنها قد تؤدي في نهاية المطاف إلى دوامة تضخم عالمية.
علاوة على ذلك، نُفذ الكثير من هذه الهجمات باستخدام معدات قدمتها إيران مثل الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية.
وبينما لا يخالج القادة العسكريين الأميركيين أدنى شك في أن إيران تشجع بنشاط الهجمات على أصول بلادهم في المنطقة، إلا أنهم قصروا ردهم حتى الآن على الجماعات المسؤولة عن تنفيذ الهجمات. وهكذا قصفت القوات الأميركية القواعد التي تستخدمها الجماعات المدعومة من إيران في سوريا والعراق، في حين استهدفت البحرية الأميركية قواعد الحوثيين المستخدمة لمهاجمة السفن في البحر الأحمر.
انخراط إيران في الأعمال الاستفزازية المستمرة يتحول بسرعة إلى قضية انتخابية كبرى في أميركا
وهجوم هذا الأسبوع على قاعدة أميركية شمالي الأردن، وأدى إلى مقتل ثلاثة جنود وإصابة 34 آخرين، يمكن أن يكون لحظة مفصلية في هذا الصراع الذي يزداد فتكا باطراد. ولم يؤد هذا الهجوم على القاعدة الأميركية فقط إلى وقوع الوفيات الأولى في صفوف الأميركيين منذ هجمات 7 أكتوبر، بل جاءت ادعاءات المقاومة الإسلامية في العراق المدعومة من إيران بأنها هي من نفذت الهجوم، مستخدمة طائرة مسيرة إيرانية الصنع، لتزيد من حدة التوترات بين واشنطن وطهران إلى حد كبير.
وفي حديثه بعد وقت قصير من وقوع الهجوم، أوضح الرئيس الأميركي جو بايدن أنه يعتقد أن إيران مسؤولة على نحو مباشر عن مقتل الجنود الأميركيين الثلاثة، وتعهد بأن واشنطن سترد "في الوقت وبالطريقة التي نختارها".
ومع دخول الولايات المتحدة الآن بشكل كامل في وضعية الانتخابات الرئاسية، ومع قيام بايدن بحملته للفوز بولاية ثانية في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني، فإن انخراط إيران في الأعمال الاستفزازية المستمرة يتحول بسرعة إلى قضية انتخابية كبرى.
وبينما يسعى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب على نحو جلي إلى تصدر عناوين الأخبار الرئيسة بتحذيره من أن العالم على "حافة حرب عالمية ثالثة"، فإن كبار الجمهوريين مثل السيناتور عن ولاية كارولينا الجنوبية ليندسي غراهام يدعمون الدعوة إلى "رد واضح وقاتل وساحق".
وصخب الجمهوريين المتزايد ومطالبتهم بايدن بالتحرك يضعه في موقف صعب. فقد حرص البيت الأبيض قبل هجمات 7 أكتوبر على إبراز الفوائد التي حققتها دبلوماسيته الهادئة مع طهران، مشددا على أنها أوقفت الهجمات على القوات الأميركية في المنطقة.
إلا أن هذا التأكيد لم يعد ممكنا تقديمه عقب هجمات 7 أكتوبر، مع المشاركة النشطة للجماعات المرتبطة بما يسمى "محور المقاومة" الإيراني (حماس، وحزب الله، والحوثيين) في الهجمات على الولايات المتحدة وحلفائها.
يبدو أن الحرب غير المعلنة بين الولايات المتحدة وإيران توشك أن تلج مرحلة لا حد لخطورتها
نتيجة لذلك، يقال إن مسؤولي البنتاغون ينظرون بجدية في شن ضربات انتقامية ضد إيران، على الرغم من مواصلة إدارة بايدن إصرارها على عدم رغبتها في إثارة صراع أوسع مع طهران.
ومع ذلك، هناك إجماع عام في واشنطن على أن غارة الطائرات المسيرة التي نفذت هذا الأسبوع على القوات الأميركية في الأردن، قد تجاوزت خطا أحمر غير معلن، وهو ما يتطلب ردا حازما من إدارة بايدن، إن لم يكن لشيء فلإعادة تأكيد سلطات الرئيس كقائد أعلى فاعل قبل انتخابات نوفمبر.
وبعد أن وعد برد "مؤثر للغاية" على الهجوم في الأردن، يجد البيت الأبيض نفسه الآن في مأزق وهو يدرس خياراته، التي تترجح بين الاستهداف المباشر للقواعد العسكرية الإيرانية ذات الصلة بالهجمات الأخيرة ضد الولايات المتحدة أو تدمير مواقع للحرس الثوري الإيراني في سوريا.
وفي كلتا الحالتين، من الواضح أن الحرب غير المعلنة بين الولايات المتحدة وإيران الدائرة منذ أكثر من أربعة عقود، توشك أن تلج مرحلة لا حد لخطورتها، مرحلة لا يمكن معها استبعاد احتمال وقوع مواجهة مباشرة بين واشنطن وطهران.
وفي حين أن إيران لا تخفي رغبتها في إنهاء تدخل واشنطن الطويل الأمد في المنطقة، فقد يجد بايدن أن لا خيار أمامه سوى اتخاذ موقف متشدد من طهران إن كان يريد الفوز بإعادة انتخابه، حتى ولو زاد ذلك الخيار من توترات المنطقة بدلا من أن يطفئ لهيبها.