قراءة أعمال إتيان دينيه سواء تلك التي في المتحف الذي يحمل اسمه في بوسعادة جنوب الجزائر أو في المعرض الباريسي الأخير الذي احتوى على عدد من لوحاته المجمعة من المتاحف الفرنسية، تربك هذه النظرة المكرّسة التي تنظر إلى الفنانين بوصفهم أدوات بيد جحافل جيوش الغزاة المستعمرين، فهي تكشف لنا أن الفنان الذي أسلم عام 1913 بعد دراسة معمقة للإسلام حافظ على منحاه الفني الحر في الرسم دون التقيد بمفاهيم مسبقة تضعه في جانب مضاد لأولئك الذين سبقوه إلى الشرق. فدينيه الذي أصبح بعد إسلامه يدعى ناصر الدين دينيه، أو الحاج ناصر الدين دينيه بعد حجّه إلى مكة، لم تختلف وجهته الفنية كثيرا بعد إسلامه، ففي هذا المعرض نجد ثلاث لوحات لنساء شرقيات وقد تحرّرن من ملابسهن باستثناء بعض الخلاخل والحلى التي تحيل إلى بيئتهن، رسمهن الفنان في 1897 و1900 و1911، أي قبل إسلامه، وبجانبها لوحة رُسمت عام 1926، بعد إسلامه، لامرأتين عاريتين يستعيد فيهما حكايا نساء الشرق وسحرهن.
لهذا نجد أن من الصعب إطلاق الأحكام الجاهزة عن الفنانين وارتباطهم بمفهوم الاستشراق الذي اتخذ منحى سياسيا بعيدا عن خصوصية الفنان أو هواجسه الإبداعية والثقافية. فلوحات دينيه المرسومة في مختلف حياته، بقيت دائما مخلصة لهذا المنحى الجمالي الذي ميز أعماله فنجده ومن زوايا واقعية وانطباعية وتعبيرية وبتأثيرات كلاسيكية قد راح يرسم أهل الجزائر في كل تفاصيل حياتهم اليومية، ألعاب الأطفال ومشاجراتهم، والوجوه المتأملة والمترقبة بأزيائها التقليدية، والنساء بملابسهن وحليهن ورقصاتهن، والرجال وحيواناتهم ووديانهم وصلواتهم، واحتفالاتهم في الأعياد الدينية. كل ذلك في فضاءات لونية مضاءة دائما بروح المكان الشرقي وشمسه.
هيام عمر الخيام
نشأ إتيان دينيه في عائلة كاثوليكية من طبقة النبلاء في قصر على نهر السين بالقرب من باريس ودرس الفن التشكيلي في أكاديمية "جولان" لمدة أربع سنوات حيث تعرف الى مختلف الاتجاهات الفنية الحديثة.
وشكل سفره الأول إلى الجزائر عام 1884 محطة مهمة في حياته، حيث ذهب إلى هناك مع صديق له كان أخوه يقوم بأبحاث عن حشرة نادرة، ليفتن بعدها بأجواء الصحراء وشمسها فيعاود السفر إليها مرات، حتى تعرف الى سليمان بن إبراهيم باعمر الذي سيصبح رفيقا له حتى آخر لحظة في حياته، فعاونه على كتابة بعض القصص العربية مثل عنترة وتأليف كتب عن "حياة محمد" نبي الإسلام و"الشرق في نظر الغرب" و"الحج إلى بيت الله الحرام".
الإسلام الحضاري
يلاحظ في إسلام دينيه، أنه كان ينظر الى الإسلام من زاوية حضارية كلية تشمل مختلف جوانب الحياة، حتى إنه وقف مدافعا عنه أمام الأطروحات النقدية الغربية في سجال عقلي غير متعصب، وما قاله في كتاب "محمد رسول الله" الذي ألفه دينيه مع صديقه سلمان عام 1918 يعكس هذه النظرة الشمولية، فينقل الطيب بودربالة في كتابه "الفونس إتيان دينيه" قوله: "لو اطلعتْ أوروبا على الإسلام الحقيقي لاستفاد الإسلام أيما استفادة من ظاهرة عودة الروح الدينية بقوة بعد الحرب العالمية، لأنه يستجيب لتطلعات مختلف فئات المؤمنين. فهو في قمة البساطة مع المعتزلة، وفي أعلى التجرّد الروحي مع التصوف، يقدم أفقا وطمأنينة للعالم الأوروبي أو الآسيوي، دون أن يعيق حرية التفكير مطلقا.