"سيكلوجية الجماهير ما بعد لوبون": تعاون لا صراعhttps://www.majalla.com/node/309601/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%B3%D9%8A%D9%83%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%85%D8%A7%D9%87%D9%8A%D8%B1-%D9%85%D8%A7-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D9%84%D9%88%D8%A8%D9%88%D9%86-%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%88%D9%86-%D9%84%D8%A7-%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9
يتعامل الدكتور خليفة الفضلي في كتابه "سيكلوجية الجماهير ما بعد لوبون: تحديث مستحق في علم نفس الحشود"، الصادر في أواخر عام 2023 عن "شركة رف للنشر" مع ظاهرة إشكالية ومفتوحة ومتغيرة، انطلاقا من عمل الباحث الفرنسي غوستاف لوبون، الذي كان قد أطلق كتابه المرجعي بعنوان "سيكولوجية الجماهير" في العام 1895.
تأثير الكتاب يتجدّد باستمرار ولا يزال يستعاد ويترجم، كما أنه يعد أحد الكتب الفكرية القليلة التي دخلت في الثقافة الشعبية العامة حتى بات دائم الحضور في مستويات مختلفة تتدرّج من العلمي والأكاديمي الرصين إلى الشعبي والهزلي والساخر.
يعترف الكاتب بفضل الباحث الفرنسي وأسبقيته فهو يشير إلى أن التعامل مع أفكاره يتخذ صيغة التحديث لا النسف التام أو التناقض. ويكشف الاعتراض على ما جاء به عبر بنية التحديث المستحق بما تنطوي عليه العبارة من الإيحاء بالضرورة المعرفية الملحة، مرامي الكتاب ويشرح أهدافه.
التحديث، كما تشير إليه التكنولوجيا المعاصرة يقوم على استبدال نظام بنسخة جديدة أكثر فاعلية لا تنسف البنى التي قام عليها النظام السابق ولكنها تجعلها متقادمة وعاجزة عن مسايرة التطور.
يعارض الكتاب اختصار السلوك الجماهيري في عنف يتحول إلى عدوى مرضية تطاول المشاركين في التجمعات الجماهيرية
الكاتب يأخذ على لوبون تعامله مع الجماهير بسلبية مطلقة ينظر من خلالها إلى الفرد المنخرط في فعل جماهيري على أنه أقل من ذاته الفردية ويقع خارج نفسه وشخصيته ولا يعود مالكا لهما، ويكون قادرا على الإتيان بأفعال وممارسات يستحيل أن تصدر عنه كفرد، كما يعارض اختصار السلوك الجماهيري في عنف يتحول إلى عدوى مرضية تطاول المشاركين في التجمعات الجماهيرية، وفي فعل لا إرادي، ويرفض تفسيره على أنه استجابة لسحر قائد.
قد تفسّر الظروف التي خرج بها كتاب لوبون إلى النور النتائج التي توصل إليها، فهو جاء استجابة لما أفرزته الثورة الفرنسية من مشهديات جماهيرية عنيفة وصاخبة. وتفتقر المراجع التي اعتمد عليها إلى الدقة وكانت ولا تزال متأثرة بالتنويم المغناطيسي وغيره من المعارف السائدة ولم تلتزم بأطر البحث والتدقيق العلمية الصارمة، وقد أعيد البحث في الكثير من المعطيات التي نادى بها لوبون عبر استخدام منهجية بحث دقيقة، وكانت النتائج مغايرة لما ذهب إليه.
أبرز مثال على ذلك دراسة تومبسون عام 1971 التي لاحقت الوثائق التي تصف أعمال الشغب التي جرت خلال فترات المجاعات في بريطانيا بين عامي 1750 -1820، وكانت النتائج التي توصل إليها تختلف عما ذهب اليه لوبون لناحية افتراض صدور الأفعال عن الحشود بشكل غير قصدي. فتفيد دراسة تومبسون بأن العنف الذي مارسته الجماهير لم يكن عشوائيا بل يتبع سياقا قصديا، ويتجه نحو تحقيق أهداف واضحة ومحددة، ولم يكن استجابة لنزوع قبلي للسلب والسرقة بل أصاب مجموعة معينة من التجار المحتكرين والمتلاعبين بالأسعار، وكان هدفه الواضح الانتقام منهم، كما أن حالات الاستيلاء على المتاجر ومحتوياتها لم تكن نهبا وسرقة، ففي كثير من الحالات كانت عملية فرض تصحيح للأسعار أي أن دافعها كان فرض أسعارعادلة ولو عن طريق القوة.
أعيد البحث في الكثير من المعطيات التي نادى بها لوبون وكانت النتائج مغايرة لما ذهب إليه
ترد أمثلة كثيرة تعارض فكرة انطواء كل حشد جماهيري على نزعة إلى العنف، ففي مظاهرة كبيرة في هونغ كونغ في عام 2019 شهدت صدامات عنيفة ضدّ قوى الأمن، كان لافتا أن الجماهير فتحت الطريق أمام سيارات الإسعاف كي تمر، وكذلك يتجلّى نموذج الاجتماع الجماهيري السلمي والخالي من العنف في الحج إلى الحرم المكي حيث تجتمع أعداد كبيرة من الناس، ولا يسيطر عليها العنف بل على العكس من ذلك تسود أجواء التراحم والسلام.
الهوية الاجتماعية
من التحديثات التاريخية التي تلت ما جاء به لوبون نظرية الهوية الاجتماعية التي كانت تحليلا وسبرا لمعضلة الشر التي انفجرت بعد الحرب العالمية الثانية، وخصوصا أن من مارسوا كل الشرور التي تستعصي على الوصف كانوا منتمين إلى جماعات قطعت شوطا طويلة في التمدّن والتحضّر، فكان أن خرجت إلى النور نظرية الهوية الاجتماعية على يد الباحث هنري تاجفيل وفريقه الذي حددها بأنها "جزء من مفهوم الذات الذي يستمد من إدراك الفرد لعضويته في جماعة والأهمية العاطفية التي يضفيها على هذه العضوية".
وكذلك انتشر مفهوم "تفاهة الشر" الذي جاءت به حنة أرندت والذي يفسر قدرة الفرد العادي غير العنيف على ارتكاب افعال مروعة إذا ما أحيل هذا الفعل إلى إدارة سلطوية تجعله تنفيذا للأوامر وعملا روتينيا عاديا.
وقد عرف مفهوم الهوية الاجتماعية تطبيقات عديدة في مجالات مختلفة في السياسة والصحة، فالقائد وفق ما اكتشفته هذه النظرية ودافعت عنه لم يعد ذلك الذي يتمتع بسحر كاريزمي، بل من يمثل هوية الحشود ويقدّم نفسه حارسا لها، كما أن من يتقاسمون هوية اجتماعية موحدة تكون لديهم عادات استهلاكية وصحية مشتركة، وقد بُني عليها في إنشاء عمليات ترويج وتسويق ناجحة وفعالة.
دافع الكاتب في عن قيم التعاون والتفاهم والميل إلى العدل كسمات أصلية لسلوك الجماهير، بينما ينظر إلى العنف كسمة طارئة ومصطنعة وعارضة
دفاعا عن الجماهير
يدافع الكاتب في خلاصة بحثه عن قيم التعاون والتفاهم والميل إلى العدل كسمات أصلية لسلوك الجماهير، بينما ينظر إلى العنف كسمة طارئة ومصطنعة وعارضة، تظهر بسبب سوء إدارة أو تنفجر ردّا على تهديد، وليست فعلا غريزيا بدائيا وتلقائيا كما يقول لوبون. ويورد المؤلف أمثلة كثيرة على ذلك أبرزها دراسات الباحث بول بلوم في كتابه "مجرد أطفال" التي يؤكد فيها أن الحس بالعدالة والإنصاف موجود في الأطفال من عمر 3 إلى 8 أشهر، كما تظهر دراسات أخرى أن الناس عموما يميلون إلى معاقبة المسيء حتى لو أدّى ذلك إلى الإضرار بمصالحهم، ويلفت إلى ما جاء في كتاب ريتغر بريغمان "البشرية تاريخ متفائل" لناحية تأكيد أن التعاون هو أبرز الصفات التي ساهمت في ازدهار الحضارة الإنسانية.
ويستحضر المؤلف دراسة الكاتبة ريبيكا سولنت التي حملت عنوان "الفردوس وسط الجحيم " مبرزة أمثلة عديدة عن التعاون وسط الكوارث، كما كان الحال في زلزال سان فرانسيسكو 1906 وفي تفجيرات لندن وفيضانات إعصار كاترينا 2005.
وينفي الكاتب فكرة الصراع على الموارد الشحيحة كعنوان يفرض لجوء الجماهير إلى العنف والصراع عبر تجربة قام بها شخصيا خلال زيارة إلى مخيمات اللاجئين السوريين في الأردن عام 2016 حيث وثق سيادة مفاهيم التعاون والتعاطف والإيثار في تلك البيئة التي كانت تعاني من شح الموارد، كما يستشهد بسلوك الناس خلال فترة انتشار وباء كوفيد19.
وفي الفترة الأخيرة أُفرج عن وثائق تتعلق بتجارب كانت قد خرجت بنتائج تدعم نظرية الأصل العنيف للسلوك مثل تجربة سجن ستانفورد الشهيرة التي قام بها العالم فيليب زيمباردو عام 1971 وحيث قسم المشاركين مجموعتين تقوم أحدهما بوظيفة المساجين في حين تلعب الأخرى دور الحراس، وكانت النتيجة أنه بعد مرور فترة قصيرة بدأ الحراس يميلون إلى ممارسة العنف ضد المساجين. وبيّنت الوثائق التي أفرج عنها أن العنف نشأ بعد التأكيد للحراس أنهم يقومون بفعل صالح. أعيدت تلك التجربة عام 2002 على يد العالمين هاسلم ورايتشر وسُجّلت ووثّقت على قناة "بي بي سي" وكانت النتائج مغايرة للتجربة السابقة حيث وجدت أن الحراس لم يبدوا نزوعا تلقائيا إلى ممارسة العنف.
موضوع الجماهير ونزوعاتها قد يكون منطويا على تعقيدات تتعلق بتعريف الحشد في زمننا الحالي الذي تسيطر عليه التكنولوجيا وتبدُّد شرط المكان الذي كان ضروريا لصناعة الجماهير.
الجماهير اليوم تصنع في العزلات وتتلقى التأثير وتسعى إلى صناعته من وراء شاشات الهواتف والأجهزة الذكية، كما تبرز إشكالية أخرى تتعلق بتعريف المرحلة الحضارية التي نحياها وخصوصيتها وكيفية بناء المشاعر العمومية فيها. إذا كان الدكتور الفضلي يعتبر محقا أن لوبون تأثر بمعارف عصره وانحيازاته وظروفه، فإن اللحظة التي يغرق فيها العالم حاليا تسفر عن ظروف ومناخات قد تتجاوز في حدتها وطبيعتها المغلقة ما كان يحياه لوبون والذي كان كتابه محاولة لسبر أغواره، وتحتاج تاليا إلى تحديثات تستقرئ عودة العنف لاحتلال واجهة التخاطب الجماهيري في الميادين كافة السيكولوجية والسياسية والثقافية والاقتصادية، وما يعنيه ذلك من سيادة القطيعة والصراعات ونفي التعاون والتفاهم.