إنّه سعيد عاقل المتعدّد شعرا ومسرحا ولغة وسياسة وتدريسا: يتأرجح بين الكلاسيكيّة والرمزيّة والأغنية، بين الماضي المتخيّل والأسطورة، بين الانسجام والتناقض بين المتنبّي وأبي تمّام، بين بول فاليري وبول فرلين، بين راسين وكورناي، بين الشِّعر الفصيح والعامّي، وبين الحرف اللاتيني والعربي، هذه الثنائيّات تداخلت أحيانا، وأخرى تصادمت، تراجعت وتقدّمت... بين الهُويّة العربيّة والفينيقية، بين الحرف العربي واللاتيني... بين السياسة والسياسي والثقافي.
عاش متجاوزا المئة سنة بسنتين، لكن اكتشاف ثلاث هُويات لبنانية، كما أظهرها بالصورة هنري زغيب: واحدة 1908، والثانية 1910، والثالثة الممتدّة 2012، يعني أن سعيد عقل، بحسب هذه الوثائق عاش 106 سنوات، ونحن اعتمدنا ما اعتمده الشاعر احتراما لخياره. لكن من خلال هذه الثنائيات التي ذكَرْنا، أين نجد سعيد عقل المتجدّد في بعضها، والمحافظ في بعضها.
الواقع أن شاعرنا كتَبَ مسرحيّتي "بنت يفتاح" و"قدموس" ونَسَبَ بعضهم إليه "مسرحية المجدلية" لكن هذه الأخيرة ليست مسرحية بل قصيدة من أجمل قصائده (متأثّرا بها ببول فاليري). كذلك تأثر مسرحيا بشيء من الفرنسي كورناي، ولكنه تحاور مع راسين (القرن السابع عشر)، لأنّ الأوّل سردي، والآخر شعري. وقرأ شيئا من شكسبير. ولم يتأثّر إلى حدّ شعري بمسرحه، والسبب أن الشاعر الإنكليزي الكبير جمَعَ بين لغة شعريّة ثريّة وعالية ولغة مسرحيّة تعادلها: أي مسرحيّة الشِّعر ذات بنية دراميّة توازي قوّة التعبير. لكن في مسرحيّتي سعيد عقل "قدموس" و"بنت يفتاح"، اعتمد الوحدات الثلاث التي ورثها عبر راسين وكورناي من المسرح الإغريقي. فهو عندما نشر المسرحيّتين في الأربعينات لم يحاور الحركات المسرحيّة الأوروبيّة الجديدة التي تجاوزت المعطى الإغريقي، كما عند أنطونان أرطو إلى برشت وبيتر فايس... وسواهما. بقي بين جدران أرسطو ذي الوحدات الثلاثة.
أهمية هذا الشاعر الكبير بين الثلاثينات والأربعينات تجاوز المدرسة الرومانطيقيّة، التي كان يمثلها جبران خليل جبران وخليل ومطران
قرأنا مسرحيّتي سعيد عقل فوجدنا أنّ لغته الحوارية شاقّة، واقعّيتها بين شخصيات عديدة، متشابهة في النبرة، كأنّها تتكلم بلغة واحدة، ولهذا حاول الرحبانيّان منصور وعاصي أن يغامرا باقتباس "قدموس"، كما قال لي منصور آنئذٍ "يا أخي إنها مجموعة حوارات شعرية بلغة جميلة لكن يتعذّر علينا أن نقدّمها على المسرح لأن لغتها بتركيباتها أقرب إلى حواريات ذات قيمة عالية لكن بنيتها وشخصياتها يتكلمان كلاما أقرب إلى النظم الشِّعري منها إلى المسرح".
رجع سعيد عقل إلى الأسطورة في المسرحيتين: فقدموس هو ناقل الحرف إلى اليونان، لكن غاب عن سعيد عقل أن قدموس هو بالنسبة إلى الإغريق إله، أو نصف إله، بنى مدينة طيبة، وكان اليونان يلقّبونه بقدموس البربري، لأنّه آتٍ من الشرق، ولأنّه لا يتكلم اليونانية، ويكتب باللغة الفينيقية.
من هنا نقول إن مسرحيتي سعيد عقل لا تنتميان إلى مواصفات المسرح اليوناني. ونرى أن أهمية هذا الشاعر الكبير بين الثلاثينات والأربعينات تجاوز المدرسة الرومانطيقيّة، التي كان يمثّلها جبران خليل جبران وخليل ومطران وفوزي المعلوف وأبو القاسم الشابي والأخطل الصغير وخصوصا إلياس أبو شبكة. وهنا يمكن تحديد تميّزه عنهم، رغم أن هؤلاء جزء من التجديد الشعري الذي تجاوز البارودي وأحمد شوقي اللذين بقيا متمسكين بالشِّعر التقليدي. فهؤلاء الرومانطقيون الجُدد بقي بعضهم في إطار اللغة الوصفية، أو البلاغة التقليدية. بينما سعيد عقل بتأثّره برمزيّة بول فاليري جعل اللغة بجماليتها وتجاوزها المباشرة، مرتبطة بالإيحاء أي بعيدة عن التعبير المباشر. تُوحى بالمعنى وتجترح النص كمعماريّة أي تومض بها، وفي قراءة ما وراء النص. أي إنها توحي بالمعنى، بتحويله إلى حالة غامضة متعددة التفسير، أي أن اللغة بتداخل تشكيلها تفتح أفقا لما في خلفيات النص.
وهذا ما ورثه عن بول فاليري الذي تتلمذ على مالرمه، الذي تأثر ببودلير. فاللغة باتت أساسا محوريا في تفشية المقاصد، فالشعر ومض، يطرق الحواس والمخيّلة والدهشة متجاوزا السردية ذات البعد الواحد. لكن بعض الباحثين يرون أن سعيد عقل لم يعمّق هذه الرمزية المركّبة، بالتباسات فكرية أو نفسية أو شعورية على غرار بعض الشعراء السورياليين العرب في لبنان ومصر والعراق الذين اقتصرت تأثيراتهم بالسورياليّة على الشكلانيّة (هذا ما أوقع سعيد عقل في شكلانيّة اللغة لا بأعماقها). فالسورياليون مثل رمبو، ولاتريامون وبعدهما بطريرك السورياليّة أندره بريتون ورينه شار وجاك بريفير، رفعوا بعد رمبو شعار "تغيير الحياة" أو المجتمع (أي ثورة اجتماعية وأيديولوجية وسياسية. من هنا نقول إنّ سعيد عقل اقتصر (مع من جاء بعده من السورياليين العرب كجورج حنين وأنسي الحاج)، على الشكلانيّة، وجماليّة فائقة حوّلتها عن الرمزيّة عند شعراء كبول فاليري صاحب رائعته الشعريّة "المقبرة البحرية".
ولهذا فإن مَنْ قارن سعيد عقل بفاليري، اعتمد هذه اللغة النحتية، هي المعادل الرئيسي لسعيد عقل.. ففاليري تلميذ هعلى مالرمه (صاحب رائعة "رمية نرد"، أو "المقبرة البحرية"). يُعتبر من كبار المفكرين الأوروبيين، ولا يزال مرجعا كبيرا للفكر التاريخي والفلسفي، الذي جعل من مضامينه الفكريّة مادة ناضجة للرمزية، فعندما تقرأه يرميك في أعماقها وتغرق من غموضه في عالم متشابك العلاقات غامض الإشارات، فهو وإن كان تلميذ مالرمه صاحب قصيدة "رمية نرد" أصعب القصائد وأخصب تفاسيرها وموحياتها. فهو أي مالرمه اصطدم بجدار اللغة، أمّا فاليري فتصالح معها وتوسّع في تحويل الأفكار إلى حالات شعريّة وذهنيّة مفتوحة على الإشارات، برمزيّته ولغته وكيميائيّته وتراكيبه. لكن على الرغم من كل ذلك فإنّ سعيد، تناسى في كثير من قصائده تأثّره بالشِّعر العربي العبّاسي متمثّلا بالمتنبّي وأبي تمّام مثل قصيدة "غنّيت مكة" و"يا شام" وقصيدته عن الروائي الروسي شولوخوف، والعديد من قصائده الأخرى.
وكذلك ابتعد عن الرمزيّة، بالعديد من مؤلفاته الغزلية وغير الغزلية كأنّه ارتدّ عن مشروعه الرمزي، خصوصا في "رندلى"، و"أجمل منك لا" و"أجراس الياسمين" والخماسيّات.
لكن شِعره هذا (وقبله) لعب دورا كبيرا في تجاوز القصيدة الموزونة بوقعها الجمالي والأنيق والسائل والرشيق أحيانا كثيرة، والبلاغيّة المتحوّلة نوعا ما (جدّد في البلاغة العربيّة كأبي تمّام)، بضربات غامضة وغريبة وصادمة.
في الذكرى العاشرة لرحيل سعيد عقل، نقول، مع أنه ترك كنزا من القصائد، بقيت نضرة، بالرغم من التحولات الأدبية والشعرية، فإنه لم يخترق العالم العربي
أمّا شِعره بالعامّية اللبنانية فلا يختلف عن شعره في قصائده الغزلية، فالغنائيّة رشيقة، واللغة متجدّدة ونصوص الأغاني مرنة، والأهم أنّ الغنائيّة التي كانت ذات طغيان زجلي، ساهمت في مزاحمة القصيدة الفصيحة؛ أي انفتحت على الحداثة الشعرية، خصوصا اللبنانية. لكن من هو رائد العامّية المتجدّدة، بعضهم زعم أنّ سعيد عقل هو الرائد (وبعضهم رجع إلى رشيد نخله وخليل روكز)، لكن من يطّلع على دواوين عديدة يرى أن الريادة في القصيدة العامّية الحداثيّة تعود إلى الشاعر كبير ميشال طراد.
وفي الذكرى العاشرة لرحيل سعيد عقل، نقول، مع أنه ترك كنزا من القصائد، بقيت نضرة، بالرغم من التحوّلات الأدبيّة والشِّعرية، فإنه لم يخترق العالم العربي. إنّه من الروّاد... لكن ماذا بقي منه في هذا الزمن؟ الواقع أن أهمّ ما تركه هي قصائده سواء الرمزيّة (والمتأثرة) بالإرث العربي الكلاسيكي.
ما تبقى من ذلك الشِّعر المختلف، أنه فتح طرقا مفتوحة على الحداثة الأدبيّة، في كتبه (أعماله الكاملة) بقي ذلك الومض المُضيء في رمزيّته وإيحاءاتها، وتزاوج التراث الجديد عنده، وكيف حوّل معطياتها وعناصرها التاريخيّة إلى صوغ، لم ينافسه فيه أيّ شاعر لبناني وعربي.