أما في السيرة التي كتبها خالد منصور لعفاف محفوظ، فقد أنجز عملا روائيا رشيقا في لغته ونسيج خيوطه وصياغاته. وخلف روايته كل حادثة من حوادث السيرة وطريقته في سردها، نكتشف قيما ومعايير أخلاقية محدّدة تتحكم بسلوك شخصيات هذه الحوادث وعلاقاتهم الاجتماعية. وتحضر أيضا في سياق السرد ملامح من تحولات الاجتماع المصري الحديث طوال نحو من قرن من الزمن.
وهذا ليس أقل من عنصر درامي يخترق السيرة ويقرّبها من العمل الروائي، على الضد من الطفح أو الوباء الروائي بالعربية، ذاك الذي حوّل الكتابة الروائية إلى "عرض حال" عاطفية بإنشاء لفظي فقير وعديم الدلالة، لا يتجاوز ما يتعلمه تلامذة المرحلة المتوسطة في مادة الإنشاء العربية.
مصر الفئات العليا والمتوسطة
استهلت محفوظ، بل هو كاتب سيرتها من استهل كتابته السيرة بـ"استعداد" صاحبتها "للموت" وتقبّلها فكرته وهي في الثمانين من عمرها. ثم ينتقل فجأة إلى رواية وقائع طفولتها وحياة أسرتها، وملامح وصور وظلال وأطياف وحكايات عائلية "مهموسة" مدارها جَدّا عائلتها المؤسِسَان، الوافدان إلى مصر من المغرب والأناضول، في أواسط القرن التاسع عشر. ومن ثم يتواتر السرد في روايته سيرة الراوية الشخصية، الأسرية والمدرسية والعملية المهنية، وتدافع علاقتها بزمنها الاجتماعي المصري، ليتسع إلى حياة سواها من أهلها ومعارفها ومجايليها، ومصريين كثيرين أمثالها من أبناء النخبة المصرية المقيمة في بلدها والمهاجرة منه طوعا أو قسرا إلى أوروبا وأميركا.
فوق هذا كله تظل مصر حاضرة بقوة في الشغف بالرواية ودافعا إلى سرد السيرة وكتابتها. فمصر - أي الروح المصرية، الهم المصري والمجتمع المصري، وزمن مصر الاجتماعي الحديث وتحولاته - هي ما يشكل الخيط الخفي والحميم الجامع بين الراوِية وكاتب سيرتها. وهي التي تحضر في خلفية السيرة الروائية أو الرواية السِيريّة، وتكوِّن بطانتها الداخلية.
وهذا ما أشارت إليه عفاف محفوظ بأسى في ختام روايتها سيرة حياتها: "تظل مصر منبع جذوري، رغم أن (...) تلك الجذور اختفت تقريبا، في الواقع. ففي القاهرة، عندما زرتُها قبل سنوات، لم أرَ أية جذور حقيقية متبقية. بل لم أستطع حتى التنفس بسهولة، بسبب دخان حرائق قش الأرز، أو ما يسمونه في القاهرة السحابة السوداء. (... وها) أجلسُ الآن على مقعدي في فلوريدا، متذكرة قصة حياتي، بينما أرنو إلى الساحة الكبيرة الخضراء أمام البناية، من خلف النافذة الزجاجية الكبيرة، وأبتسم متخيّلة أحيانا أنني أرى نخيل المنيا على شاطئ بالم بيتش في فلوريدا".
لكن ما روته صاحبة السيرة رواية تفصيلية، وكتبه خالد منصور كتابة روائية، ينطوي في ثناياه على ملامح من سيرة أبناء الفئات العليا والمتوسطة والنخبة الثقافية والبيروقراطية التي تنتمي محفوظ إليها، وعاشت في دوائرها حياتها وعلاقاتها كلها، العائلية والزوجية والشخصية والمهنية.
اكتئاب الكبت العاطفي والذهني
تبدأ السيرة من المنيا بالصعيد، حيث ولدت عفاف محفوظ "على مشارف الحرب العالمية الثانية"، وكانت عائلتها صاحبة مكانة ونسب وثراء، ومتشددة في محافظتها الأخلاقية وفي خوفها على البنات وسمعتهن الاجتماعية. ففي طفولتها كابدت محفوظ زجرا وحصارا وكبتا في بيئتها العائلية المتشدّدة في تربية البنات، وفي رقابتها على سلوكهن وأجسادهن. وهذا ما كابدته أيضا في مدرستها، مدرسة الراهبات "المتشددات في تربية البنات".
في الإسكندرية، حيث درست الحقوق في الخمسينات، "تعاطفتْ (محفوظ) مع جماعة الإخوان المسلمين" وتحجبت، رغم معارضة أهلها ورفضهم تحجّبها. فالمحافظة الأخلاقية المتشددة في بيئتها، لم تكن لتتطلب تحجيب بناتها، بل تتركهن سافرات ذاك السفور الراقي والمحتشم والمسوّر بالخوف عليهن من الانزلاق إلى مسالك ودروب قد تفضي بهن إلى اختبارات وخيارات شخصية وفردية، منها التحزُّب للإخوان المسلمين، أو الدخول في عالم الفن والفنانات، مثلا. وهذا، في مرآة قيم عائلتها المرموقة وشيمها وفضائلها وحسبها ونسبها، سقوط في العوام والمجهول والخطايا.
وحين تزوّجت كان زواجها باردا جافا، وخاليا من الرغبة والعاطفة والهوى والميل. والأرجح أن هذه – باعتبارها مشاعر شخصية وفردية – تخاف العائلات المرموقة المحافظة منها على بناتها وتحرِّمها عليهن. وربما اقتصر هدف الزواج لدى عفاف محفوظ الشابة على حاجتها الملحة إلى الانعتاق من السلطة الأبوية والرقابة العائلية الخانقة، وعلى رغبتها في الخروج من مصر إلى فرنسا بمعية رجل/زوج مبتعث بمنحة دراسية حكومية إلى باريس في مطلع الستينات.
بعد مدة من إقامتها محجبة في باريس الستينات، خلعت حجابها و"نالت شهادة الدكتوراه وتغيرت علاقتها بجسدها وعقلها، بالدين والتقاليد، وبدأت تهتم بالتحليل النفسي". وهذا ما دفعها إلى التردّد على محاضرات جاك لاكان الجامعية، والميل إلى الفكر اليساري الماركسي في أوساط مثقفين ومبتعثين مصريين في العاصمة الفرنسية، منهم مصطفى صفوان، تلميذ لاكان وصديقه. لكن لا يساريتها الماركسية ولا التحليل النفسي قللا بقاءها على قوميتها العربية بنسختها الناصرية، والممزوجة بوطنية مصرية.
تروي محفوظ: "ظللتُ عاطفيا أعيش داخل نفسي وأتصرف بسذاجة (...) أدهشتِ (الآخرين). لم أكن مكبوبة فقط، بل مقموعة تماما، لا تصلني إشارات الآخرين ولا رسائلهم. وفي عشاء مع بعض المعارف جاملني ضابط فرنسي وقال: عيناك جميلتان. صدمت من أن يتحدث رجل عن جزء من جسدي. وكنت لا أزال أرتدي الحجاب". وهذا قبل "تهاوي النظام الحديدي الاجتماعي والعائلي الذي كان مفروضا من حولي في مصر".
أما حين عادت إلى القاهرة، فعملت في "الأهرام"، بعدما "تلقيتُ – تروي - تلك المكالمة الهاتفية العجيبة من السيدة نوال الحصملاوي، سكرتيرة محمد حسنين هيكل تدعوني إلى مقابلة الأستاذ". وكان العمل تأسيس "مركز دراسات حول فلسطين والصهيونية. وقلت لهيكل: لكن الصحف والمجلات التي يحتاجها العمل ممنوعة ولا يمكننا (بدونها) أن نعرف ما يجري في العالم (...) فطمأنني (... قائلا) إني سأكون كبيرة الباحثين. وسيكون رئيسي حاتم صادق، زوج ابنة الرئيس عبد الناصر". وهي روت أن تلك المكالمة الهاتفية التي تلقتها من سكرتيرة "الأستاذ"، لم تحصل إلا لأن زوجها - الذي كانت علاقتها الزوجية والعاطفية به باردة وجافة أصلا، بل متخشِّبة - كان "مقربا من زكريا محيي الدين، نائب رئيس الجمهورية، ولديه شبكة علاقات واسعة داخل الاتحاد الاشتراكي". ولم يكن عملها الآخر، أي التدريس في جامعة حلوان، ليختلف في علاقاته الإدارية والأكاديمية عن العمل في "الأهرام".
ولم يخلُ انفصالها عن زوجها من جرح أليم. وذلك بعد مغادرتهما معا إلى واشنطن وإقامتهما وعملهما فيها، واستغراقها هي في نشاطات "ثقافية وتطوعية" وفي "رحلة التحليل (العلاج) النفسي" من الاكتئاب. ثم اكتشفت أن زوجها "وافق" على العودة إلى مصر لينال وظيفة مرموقة في شركة خاصة دولية في بدايات "سياسات الانفتاح الاقتصادي" في مصر الساداتية. ووافق أيضا على تركها في واشنطن، كي "يعيش حياته بحرية منفردا في مصر، حيث (كان أقام) علاقة عاطفية منذ سنوات، وربما منذ العام 1966".