كل أربع سنوات، تتجه بوصلة العالم إلى أميركا في انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية. وفي الشرق الأوسط، توجه بعض الدول ضرباتها للانتقام من الرئيس الخارج من البيت الأبيض، وتستعرض أوراقها لإغواء "الفارس" القادم إلى "رئاسة العالم". الضربة "الايرانية" الأخيرة على قاعدة أميركية في زاوية الحدود السورية - الاردنية - العراقية، مثال حي ومكلف.
هذه المرحلة بين القديم والجديد، أشد شراسة هذه المرة. المغادر هو جو بايدن الذي حاول مواصلة مسيرة الطلاق مع الشرق الأوسط، والقادم من جديد هو "المتمرد" دونالد ترمب الذي ترك بصماته في شرق أوسط يعيش بدوره آلام المخاض العالمي الكبير، بين انتهاء التفرد الأميركي في قيادة العالم، وتمدد "التنين الصيني"، وجرأة "الدب الروسي" الجريح.
واقع الحال، يمكن وضع ما يجري من توترات في الشرق الأوسط- في أحد أبعاده- ضمن سياق وداع بايدن واستقبال ترمب أو رئيس جمهوري آخر. صحيح أن هذا ليس العامل الوحيد، لكنه عنصر أساسي في تحليل وتفسير ما يحصل. القائمة طويلة، وهنا بعض محطاتها.
منذ "مفاجأة أكتوبر" وحرب غزة، تصعّد إيران- عبر حلفائها وأذرعها ووكلائها- من الضربات ضد أميركا وجزئيا ضد إسرائيل. وبالإجمال، هناك نحو 600 ضربة إيرانية. وأكثر من 450 هجوما لـ"حزب الله" على إسرائيل، وأكثر من 175 هجوما شنها وكلاء إيرانيون على القوات الأميركية في العراق وسوريا، وأكثر من 30 ضربة صاروخية للحوثيين على سفن تجارية في البحر الأحمر. لاشك ان الهجوم الأخير الذي قتل فيه ثلاثة جنود وجرح عشرات، تطور كبير، يستدعي ردا أميركيا "بايدنيا" يفوق ما سبق.
ردت واشنطن وحلفاؤها بضربات واغتيالات ضد وكلاء إيران في العراق وسوريا واليمن ولبنان. لكن الهجمات الإيرانية مستمرة، وطالت كردستان العراق وسوريا وباكستان. بعيدا عن الكلام العلني والدعائي، الهدف الإيراني الحقيقي هو الضغط على أميركا للخروج من العراق وسوريا. واشنطن بدأت مفاوضات مع بغداد للاتفاق على "مرحلة انتقالية" لوجود التحالف بقيادة أميركا في العراق. لكن الهدف الإيراني، هو إخراج أميركا من "الجبهة الشرقية".
لأن الشرق الأوسط يقيم بين ضفتين ويقع بين خيارين، يواصل مستشارو بايدن ومساعدوه علنا، ومساعدو ترمب وأقرباؤه سرا، الإبحار بين العواصم والمحيطات والأروقة لوضع خيار ثان على مائدة الشرق الأوسط المزدحمة
معروف أن بايدن واصل سياسة سلفة باراك أوباما بنقل التركيز من الشرق الأوسط إلى الصين. "مفاجأة أكتوبر" أعادته دبلوماسيا وعسكريا، إلى الشرق الأوسط، لكن همه وانشغاله في الصين وصعودها، عبر التفاوض والتفاهم والمكاسرة العسكرية. مزاج ترمب صدامي أكثر مع الصين، وتفاهمي أكثر مع روسيا "البوتينية". وفي هذه النافذة، تريد إيران الانتقام من بايدن الذي يمكن توقع ردات فعله "العقلانية" قبل مجيء ترمب الذي "لا يمكن توقع ردات فعله وضرباته". أي إن إيران تريد خلق واقع جديد في آخر أيام سيد البيت الأبيض قبل مجيء رئيس جديد.
تراهن طهران على انسحاب أميركا من العراق أو إعادة تعريف الوجود العسكري فيه، ثم حصول انسحاب آخر من سوريا، لإحداث تحول استراتيجي في "البوابة الشرقية". تحول سيترك صداه في "الساحات الإيرانية" الأخرى في الإقليم الذي يتقدم فيه النجم الصيني عبر الوساطات الدبلوماسية والسلع الاقتصادية وبرود الأعصاب. أي تريد لعب دور في الترتيبات الأمنية للشرق الأوسط.
هذا السيناريو تنبت أذرعه من فكرة استمرار حرب غزة ونهر الدماء الفلسطينية والعربية. استمرار الحرب يعني بقاء ذريعة استمرار التصعيد وتوجيه الضربات والرسائل وإظهار الأوراق.
ولأن الشرق الأوسط، كما كان في العقود الأخيرة، يقيم بين ضفتين ويقع بين خيارين، هناك جهود لوصفة ثانية، إذ يواصل مستشارو بايدن ومساعدوه علنا، ومساعدو ترمب وأقرباؤه سرا، الإبحار بين العواصم والمحيطات والأروقة لوضع خيار ثان على مائدة الشرق الأوسط المزدحمة، حيث تجرى مفاوضات لترتيب بنود صفقة كبرى. البعض يسميها "معايير بايدن" والبعض الآخر يسميها "صفقة ترمب". ما هي؟
هناك نافذة لبضعة أشهر للوصول إلى صيغة واضحة لـ"معايير بايدن"، كي تبرم صفقة تستخدم في الانتخابات المقبلة، أو توفير ذخيرة وبنود يجدها ترمب أو الرئيس الجمهوري، جاهزة على مائدته في البيت الأبيض
نتنياهو يرى في استمرار الحرب استمرارا له. التصعيد يعني تأجيل المساءلة. لكن العالم سيستمر بعد نتنياهو. الأمراض باقية بعده وتتطلب علاجا. الأفكار المتداولة تتضمن الاتفاق على مجموعة من المبادئ الاسترشادية لكيفية تحقيق السلام بين الفلسطينيين والعرب من جهة والإسرائيليين من جهة ثانية. بنود "اليوم التالي" لحرب غزة ترتبط بالتفكير الأوسع لمنطقة الشرق الأوسط وخياراته والعلاقة مع أميركا. ضمانات أمنية أميركية، واتفاقات عسكرية، وبرنامج نووي سلمي، وممرات اقتصادية كبرى، مربوطة بمسار سياسي تنبت فيه من ركام غزة لبنات دولة فلسطينية وتوفير عوامل استقرار طويلة في الإقليم.
هناك نافذة لبضعة أشهر للوصول إلى صيغة واضحة لـ"معايير بايدن"، كي تبرم صفقة تستخدم في الانتخابات المقبلة، أو توفير ذخيرة وبنود يجدها ترمب أو الرئيس الجمهوري، جاهزة على مائدته في البيت الأبيض.
عليه، فإن الأسابيع والأشهر المقبلة في الشرق الأوسط، حبلى بالضربات والمفاوضات والصفقات. الهجوم الأخير في الزاوية السورية - الاردنية - العراقية لن يكون اللكمة الأخيرة. وصفة لائقة في وداع بايدن واستقبال ترمب... أو رئيس من قماشته.