إنه الاقتصاد، لأجله تخاض الحروب، أو تُفتعل، كما فعلت الولايات المتحدة الأميركية في العراق مثلا، ولأجل هذا الاقتصاد فقط تتحرك الطائرات والأساطيل، كالرد الأميركي-البريطاني على الحوثيين، المتناغم طبعا مع "قواعد الاشتباك" الأميركي-الإيراني في عملية سمّيت "حارس الازدهار"، في وقت لا تزدهر فيه إلا القرصنة الحوثية في البحر الأحمر. وها هي سبحة شركات الشحن التجاري وناقلات النفط والغاز لا تنفك عن تحويل مسارها جنوبا الى رأس الرجاء الصالح من دون توقف منذ 19 نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم.
من يتأمل في مسار الأمور عند باب المندب، وفي البحر الأحمر عموما، تتبادر إلى ذهنه استراتيجيا "العقوبات الاقتصادية" التي تمارسها الدول الكبرى، لا سيما الولايات المتحدة والغرب تأييدا لها، للضغط على دولة ما وإخضاعها، تماما كما تعاملت مع العراق وإيران وروسيا وغيرها من الدول. إنما العقوبات هذه المرة تفرضها إيران، ليس على الولايات المتحدة وحدها بسبب دعمها السافر لإسرائيل في حرب الإبادة التي تشنها على غزة، إنما على المجتمع الدولي بأسره، مؤيدا أكان لاسرائيل أم لا، ويبدو أنها نجحت حتى اللحظة في إحداث اضطراب كبير في تجارة العالم، يمكن وصفه بـ"الأضرار الجانبية" أو "Collateral Damage"، وهو مبدأ، لطالما تساهلت الدول العظمى في العمل به من أجل تحقيق أهدافها، من منطلق أن لكل حرب تداعياتها، مقصودة أكانت أم غير مقصودة، مادية أكانت أم بشرية.
للمزيد إقرأ: عدالة مؤجلة في غزة
يبدو كأن إيران تستهدف مصر لا إسرائيل، مع التراجع الكبير في نشاط قناة السويس، ومن المهم أن يتوقف المراقب عند النتائج الاقتصادية التي لم تتجل بوضوح بعد، جراء تغيير مسار السفن
هل أثبتت إيران أنها قادرة، على التحكم بجزء مهم من التجارة العالمية البالغة قيمتها 32 تريليون دولار عبر واحدة من ميليشياتها المحترفة، التي شنت حتى اليوم ما لا يقل عن 35 هجوما حتى الآن على السفن التجارية والعسكرية، في وجه الدول الكبرى وجيوشها العظمى؟
"تأثير الفراشة"
يعتمد "تأثير الفراشة" (Butterfly Effect) على فكرة أن العالم مترابط بشكل عميق، بحيث أن حدثا صغيرا يمكن أن يؤثر على نظام متكامل أكثر تعقيدا. وفي عالم الاقتصاد، تشير هذه النظرية إلى التأثير المضاعف للتغيرات الصغيرة أو الموضعية، تماما كالمشهد الدرامي الذي نراه في باب المندب وانسحابه على سياسات واقتصادات دول العالم أجمع.
يبدو كأن إيران تستهدف مصر لا إسرائيل، مع التراجع الكبير في نشاط قناة السويس، أحد موارد مصر الرئيسة من الدولار. ومن المهم أن يتوقف المراقب عند النتائج الاقتصادية والمالية التي لم تتجل بوضوح بعد، جراء تغيير مسار سفن الشحن عبر البحر الأحمر، مع استمرار تراجع التجارة العالمية في الشهر الأول من السنة، بعدما سجلت تراجعا بنسبة 1,3 في المئة في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
لا تتحمل شركات الشحن ومنتجات كثيرة ارتفاع علاوة الأخطار الأمنية وتكاليف التأمين الاضافية، أو أن تكون عرضة لصواريخ مجنحة أو باليستية من أنواع "روبيج" السوفياتية و"المندب-1" الصينية أو "غدير" و"سجيل" الإيرانية، ناهيك عن مضاعفة أسعار الشحن بين 150 و250 في المئة أو حتى 600 في المئة للشحنات المتوجهة من شمال آسيا إلى أوروبا، أضف الى زيادة كبيرة في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، علما أن ما لا يقل عن 90 في المئة من السفن غيرت مسارها فعلا وفقاً لشركة "دروري" البريطانية الاستشارية للأبحاث البحرية.
خرائط جديدة للنقل البحري
إذا كانت الحرب الروسية-الأوكرانية أعادت تشكيل طرق تجارة النفط والغاز والحبوب، بما في ذلك عبر البحر الأسود، فإن تراجع حجم التجارة عبر "الممر الأحمر" الساخن بنسبة 42 في المئة، في الشهرين الماضيين، بحسب تقديرات "أونكتاد"، يستدعي رسم خرائط جديدة للنقل البحري، قبل استفحال الأمر وتأثيره على التضخم التي لم تصدق البنوك المركزية أنها دخلت طور السيطرة عليه مع النجاح الذي حققه الفيديرالي الأميركي، والمرونة التي ظهرت في الاقتصاد الأميركي مع نهاية السنة المنصرمة.
تعيش آلاف الشركات في حال تأهب، لا سيما في قطاع التجزئة بعد اضطراب سلاسل التوريد والتأخير في التسليم مثل "أمازون" و"إيكيا" و"تيسلا" و"تويوتا" و"هيونداي" و"كيا" و"فولفو" و"تيسكو" و"بريمارك"
لربما تتبدد آمال دول كانت على شفير استعادة عافيتها وتحقيق نمو في اقتصاداتها، لتواجه مجددا شبح التضخم بسبب مضاعفة الأكلاف وارتفاع أسعار السلع والمواد. وتواجه شركات السيارات الكبرى مثل "تيسلا" و"تويوتا" و"هيونداي" و"كيا" و"فولفو" وغيرها، تعطل خطوط انتاجها نتيجة تأخر وصول مواردها الأولية، وتعاني الشركات الصناعية عموما شحّا في التدفقات النقدية، بحسب وكالة "فيتش"، وقد يتطلب منها ضخ المزيد من رؤوس الأموال بسبب البطء في تصريف الانتاج.
تعيش آلاف الشركات العابرة القارات بمنتجاتها في حال تأهب، لا سيما في قطاع التجزئة بعد اضطراب سلاسل التوريد والتأخير في التسليم الذي تقوم عليه المصانع والأعمال، مثل "أمازون" و"وولمارت" و"إيكيا". كما أن شركات مثل "تيسكو" و"بريمارك" في بريطانيا رفعت الصوت أيضا، حيث سجلت مصانع المملكة المتحدة ارتفاعا في تكاليف الإنتاج، وقد يفضي ذلك في حال تفاقمه إلى حد تغيير نموذج أعمالها.
وتعيد شركات النفط من "شل" و"بريتيش بيتروليوم" الى "قطر للطاقة"، ترتيب الإمدادات العالمية من شحنات النفط والغاز تجنبا لأي انكماش في الأسواق نتيجة الطلب المتزايد في مقابل خفض الإمدادات، وسعيا للتكيف السريع مع الواقع المستجد. لكن يبقى الخوف من امتداد الاضطرابات إلى مضيق هرمز، الذي شهد شحن 20,5 مليون برميل يومياً من النفط في النصف الأول من عام 2023، ما يوازي 27 في المئة من تجارة النفط العالمية المنقولة بحرا، وما يمكن أن يستجره ذلك من تداعيات ملموسة في أسواق النفط والغاز العالمية.
كل الخوف أن يكون "تأثير الفراشة" الحوثي ونيرانه الصديقة على التجارة وسلاسل التوريد العالمية أكبر مما نراه حاليا بالعين المجردة
حتى المزارعون، لم يسلموا من صواريخ الحوثيين مع توقع حصول تضخم في أسعار الغذاء والحبوب وتأثير ذلك على العديد من السلع الأساسية ومنها التفاح والحمضيات، ناهيك بالسلع الاستراتيجية ومنها الأرز والسكر والبن. هذه العواقب سيتحملها في النهاية المستهلك في دول كثيرة، ولا سيما الدول الأفقر والأضعف والأبعد عن مصادر الإنتاج.
مصائب قوم عند قوم فوائد
لا شك أن أزمة باب المندب المتفاقمة ومن ورائها قناة السويس، أنعشت التجارة في أماكن أخرى من العالم، ولا يتوقف الأمر عند رأس الرجاء الصالح الذي ارتفعت الملاحة فيه بنسبة 160 في المئة في اليوم مع انطلاق الضربات الحوثية قبل 70 يوما، قابلها انخفاض الملاحة في كل من باب المندب وقناة السويس بنسبة 75 في المئة و64 في المئة على التوالي في الفترة عينها. وجاءت جولة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في اتجاه دول غرب أفريقيا، لا سيما نيجيريا وساحل العاج وأنغولا والرأس الأخضر، خير دليل على انتقال الثقل الاستراتيجي إلى شواطئ الأطلسي، وقد نشهد قواعد عسكرية غربية جديدة هناك خدمة لـ"الأمن البحري"، إن طالت أزمة البحر الأحمر، التي قد تستمر أشهرا قبل إعادة إنشاء ممر آمن كما يتوقع كثير من خبراء الشحن البحري وشركاته، مما يستدعي السؤال هل الولايات المتحدة مهتمة فعلا بفك أسر التجارة العالمية المختنقة عند باب المندب؟
الصين من أبرز المتضررين
أما الصين، التي تصدّر ما يصل إلى 95 في المئة مما تنتجه، وهي التي صدّرت أكثر من 3,5 تريليونات دولار من السلع عام 2022 متفوقةً بذلك على الولايات المتحدة، فمصالحها الاقتصادية لتأمين ممرات الشحن في البحر الأحمر بيّنة للغاية، وهي ليست في موقف ديبلوماسي تحسد عليه، في وقت لجأت بعض سفنها إلى استخدام إشارات لإعلان جنسيتها وغياب الروابط الاقتصادية مع إسرائيل تفاديا للضربات الحوثية لدى مرورها من البحر الأحمر. وليست الهند أفضل حالا، إذ يمر نحو 80 في المئة من تجارتها، أي ما يقدّر بأكثر من 15 مليار دولار شهريا، من باب المندب إلى الاتحاد الأوروبي والساحل الشرقي للولايات المتحدة وأجزاء من أفريقيا والشرق الأوسط.
للمزيد إقرأ: التجارة العالمية تلاطم في بحر الأزمات
بعد مرور أكثر من شهرين على بدء الاعتداءات الحوثية وأكثر من 100 يوم على الحرب الاسرائيلية على غزة التي اشتعلت لأجلها "جبهة البحر الأحمر، ماذا تحقق فعلا على الأرض؟ كل الخوف أن يكون "تأثير الفراشة" الحوثي ونيرانه الصديقة على التجارة وسلاسل التوريد العالمية أكبر مما نراه حاليا بالعين المجردة، وتتكشف نتائجه تباعا، ضربات متتالية لشركات العالم، وتراكماً للتكاليف الزائدة، فتضخما متجددا لاقتصاد عالمي هش.