غسان أبو ستّة جرّاح الحروب يروي "سردية الجرح الفلسطيني"https://www.majalla.com/node/309371/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%BA%D8%B3%D8%A7%D9%86-%D8%A3%D8%A8%D9%88-%D8%B3%D8%AA%D9%91%D8%A9-%D8%AC%D8%B1%D9%91%D8%A7%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%88%D8%A8-%D9%8A%D8%B1%D9%88%D9%8A-%D8%B3%D8%B1%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B1%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A
كتاب "سردية الجرح الفلسطيني.. تحليل للسياسة الحيوية الإسرائيلية"، صادر عن دار "رياض الريس للكتب والنشر"، في يناير/كانون الثاني عام 2020. أعادت الدار أخيرانشره عقب اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
الكتاب هو خلاصة مجموعة حوارات أجراها الصحافي والباحث ميشال نوفل مع الدكتور غسان أبو ستة، الطبيب المتخصص في التجميل والترميم، وأستاذ "طب النزاعات" في الجامعة الأميركية في بيروت. يتألف الكتاب من تمهيد وخمسة فصول وخاتمة.
يقدم أبو ستة عبر الكتاب مقاربة غير تقليدية للحروب الإسرائيلية المتوالية على غزة. إذ يتوكأ على تجاربه الميدانية فيها، ليسبر أغوارها ويشرحها، كي يقدم الى القراء سردية مغايرة، تبين أن الحرب أداة إسرائيلية لإبقاء التفوق الديموغرافي اليهودي، وأنها تشكل ركنا أساسيا من أركان سياستها الحيوية الهادفة الى إلغاء الشعب الفلسطيني جسديا وسياسيا.
اعتمدت السلطة الحيوية الإسرائيلية منذ نشأتها سياسة التطهير العرقي الذي يصل الى حد الإبادة الجسدية، تجاه الفلسطينيين
يطرح الكتاب رؤية جديدة ونوعية من أجل فهم أعمق وأشمل لمنهجية الحروب الإسرائيلية، حيث يتجاوز السرد الإعلامي التقليدي الذي يحصرها بالنصر والهزيمة، وأعداد القتلى والجرحى والمشردين، ليخلق سردية جديدة هي "سردية جرح الحرب"، التي يحملها كل مصاب فيها طوال حياته. وهي سردية اجتماعية تحمل قيمة سياسية متغيرة وفق حسابات النخب السياسية. كما يلقي الضوء على منافع إسرائيلية غير مرئية من الحروب، لم تطرح قبلا على بساط البحث.
ما هي السياسة الحيوية؟
يعد الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو أول من أطلق هذه النظرية، حيث رأى أن الاهتمام بحياة السكان يمثل بدايات السياسة الحيوية (Biopolitics). فممارسة السلطة ليست قاصرة فقط على إدارة الأراضي والأقاليم، بل تشمل أيضا إدارة حياة الناس. ومنها اشتق مفهوم السلطة الحيوية (Biopower).
في الحالة الفلسطينية، اعتمدت السلطة الحيوية الإسرائيلية منذ نشأتها سياسة التطهير العرقي الذي يصل الى حد الإبادة الجسدية، تجاه الفلسطينيين، وتمكنت من تفريغ الأراضي التي احتلتها عام 1948 من حيويتها البشرية وطاقتها السكانية، وتحويل السكان العرب الأصليين فيها الى كتلة هامشية.
يعيد الباحث نوفل التذكير بفقرة من خطاب ديفيد بن غوريون أمام اللجنة المركزية لـ"حزب مباي" عام 1947: "لا يمكن أن يكون هناك دولة يهودية مستقرة وقوية ما دامت الأغلبية اليهودية فيها لا تتعدى 60 %"، لتأكيد أن السياسة الحيوية للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي في فلسطين، ترتكز على اقتلاع الجسم الفلسطيني، من أجل الحفاظ على التفوق الديموغرافي اليهودي.
ليعود نوفل فيربطها بالحاضر القريب من خلال تصريح لرئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، في ديسمبر/كانون الأول 2003: "إذا صار العرب يشكلون 40 % من السكان، فإن هذا سيكون نهاية الدولة اليهودية. لكن نسبة 20 % هي أيضا مشكلة، وإذا صارت العلاقة بهؤلاء الـ20% إشكالية، فإن للدولة الحق في اللجوء الى إجراءات متطرفة".
يبين الكتاب أن إسرائيل استغلت تسلم حركة "حماس" حكم قطاع غزة، لتصنيفه "منطقة معادية" تنطبق عليها "قوانين الحرب" لا "قوانين الاحتلال"، حيث حرصت السياسة الحيوية الإسرائيلية على العمل الحثيث لتحويل "مسألة غزة" الى "مجرد أزمة إنسانية" لا قضية سياسية.
طبيب في حقل النزاعات
ولد غسان أبو ستة في الكويت التي هاجر اليها والده عام 1953. ينتمي الى عائلة كان الشأن الوطني أحد الهموم الأساسية لها. أحد أعمامه كان من قادة ثورتي 1929 و1936، ومن مؤسسي العمل الفدائي. عمه الآخر كان رئيس بلدية خان يونس. تشكل وعيه السياسي والوطني على رسومات ناجي العلي وشخصيته الأثيرة "حنظلة" في صحيفة "القبس" الكويتية. تخصص في الجراحة التجميلية والترميم، وتخرج في جامعة "غلاسكو" البريطانية عام 1994. مارس الطب التطوعي، وعمل جراحا في جنوب لبنان والعراق وسوريا، وخلال الانتفاضتين الفلسطينيتين، والحروب على غزة.
يتحدث الفصل الأول عن الأعمال الميدانية لأبو ستة، الطبيب الأنتروبولوجي الملتزم، مستقصيا الأثر الصحي والاجتماعي للحروب في العديد من البلدان العربية، وخاصة في غزة، وأبحاثه النظرية التي تجعل منه رائدا في مجال "طب النزاعات". في ضوء هذه التجارب، عمل أبو ستة على بناء إطار ناظم لها علميا وإكلينيكيا. واقترح الجامعة الأميركية في بيروت استحداث مركز بحثي يعمل على تأطير كل هذه التجارب في فلسطين والعراق وسوريا.
استغلت إسرائيل تسلم حركة "حماس" حكم قطاع غزة، لتصنيفه "منطقة معادية" تنطبق عليها "قوانين الحرب" لا "قوانين الاحتلال"
وهذا ما أثمر عن ولادة "مركز الصحة العالمية"، الذي تولى أبو ستة مع زميله العراقي عمر ديّوشي إدارة برنامج "طب النزاعات" فيه. وأفضت جهود هذا المركز عام 2016، الى تنظيم أول مؤتمر دولي للتعريف بمفهوم "طب النزاعات"، الذي يقارب الصراع المسلح بإعادة رسم كل البنية الصحية، وليس فقط الإصابات الناتجة من الشظايا والانفجارات والرصاص.
حرب للإبادة السياسية أولا
يقول أبو ستة أن لحرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة ثلاثة أهداف: الأول عسكري – سياسي. الثاني تسويقي، لأن إسرائيل تظهر في كل حرب أنواعا جديدة من السلاح الذي تريد تسويقه في سوق السلاح الدولية. أما الثالث، فهو المساهمة في عملية البحث والتطوير في مجال الصناعة الحربية.
يضرب مثلا على ذلك في سلاح "الدرونز" القاذف للصواريخ، الذي صار بضاعة أساسية في تجارة السلاح الإسرائيلية بعد حرب عام 2008، وسلاح الدايم (Dense Inerte Material Explosive) الذي يُحدث عمليات بتر خطيرة في الأطراف. أما في حرب عام 2014، فقد استخدمت إسرائيل القذائف الفراغية التي تؤدي الى تدمير بناية بكاملها وقتل من فيها، بما يؤدي الى إبادة عائلات بأكملها ومحوها من السجل المدني. بالإضافة الى تطوير القنابل الفوسفورية، وغيرها.
كما يتحدث عن قناعة النخب السياسية الإسرائيلية باستعصاء الحل في غزة، وأن أي حرب جديدة لن تغير المعادلة، إلا أن ذلك لا يمنعها من الإيغال في الدم الفلسطيني تطبيقا للطريقة التي اتبعها آرييل شارون، والتي تقضي بالعمل على "قص العشب" كلما نبت وتنامى. ليخلص الى قناعة بأن النكبة مستمرة، والهدف هو الإلغاء السياسي حتى لو اقتضى ذلك الإلغاء الجسدي.
القيمة السياسية لجروح الحرب
ما يميز إصابات الحرب عن غيرها، أن جرحها يختزن كل سرديتها. في لحظة تلقي الإصابة، يزرع السلاح في الجسم رواية تلازم جرحى الحروب طوال حياتهم، فتحمل رواية الجرح في داخلها رواية الحرب نفسها، فيكتسب جرح الحرب قيمة معنوية، ويصير أرشيفا بيولوجيا.
في الوقت نفسه، يحمل الجريح منذ لحظة تلقي الإصابة رأسمالا سياسيا معينا، تقوم النخبة في السلطة بتحديد قيمته حسب درجة توافق السردية السياسية مع مشروعها السياسي أو تناقضها معه. تختلف القيمة السياسية للجرح طوال حياة الجريح حسب تغير مآل المشاريع السياسية والنخبة التي تقود تلك المشاريع. وتتحول هذه القيمة السياسية الى المعيار الرئيس الذي يحدد توافر الرعاية الصحية للمريض أو حجبها.
اكتشف الإسرائيلي في قطاع غزة أن إصابة الجسد الفلسطيني هي التي تحوله الى أداة معطلة
يعرض الكتاب استنادا الى تجارب أبو ستة، بصفته جراح تجميل وترميم في "المركز الطبي للجامعة الأميركية في بيروت"، ومديرا مشاركا في "برنامج طب النزاعات"، حالات مستقلة من التجربة الفلسطينية خلال وجود منظمة التحرير في لبنان، ثم الانتفاضة الأولى أو الكبرى، والانتفاضة الثانية. وتبرز هذه الحالات التوتر في القيمة السياسية لإصابات الحرب التي تختارها النخب القيادية في وقت معين، وقدرة المرضى على الحصول على الرعاية الطبية من ناحية أخرى.
النخب والسلطة والاحتلال
يقدم أبو ستة تحليلا أنثروبولوجيا للنظام السياسي الفلسطيني، الذي شهد تحولات شبيهة بتلك التي حصلت في بعض الدول العربية. ومنها صعود البورجوازية الصغيرة القادمة من الريف عبر العسكرة، والتي وجدت في المجابهة المسلحة مع إسرائيل فرصة للحراك الاجتماعي الذي يحسن موقعها السياسي. الأمر الذي أفضى الى ولادة طبقة مرتبطة عضويا بالاحتلال الإسرائيلي عقب اتفاق أوسلو. تخشى هذه الطبقة أن يؤدّي استمرار الاشتباك مع العدو الصهيوني الى إفقادها مكاسبها الاقتصادية والاجتماعية.
لذا يعتبر أن مطالبة هذه الطبقة بالتخلي عن التنسيق الأمني يعني أن تقبل بالانتحار الجماعي، بينما المطلوب من المعارضة (أي الفصائل الفلسطينية المناوئة لحركة فتح) تحديد رؤيتها والتوقف عن الدوران في الحلقة المفرغة. وحتى إذا صعدت بعدها طبقة ثانية الى السلطة، فستتبع المسار ذاته، وتشتبك مع العدو الصهيوني لتحقق حراكا اجتماعيا، ثم ستحاول التوصل الى تفاهم مع إسرائيل.
النظام الصحي والسياسة الحيوية
يدرس أبو ستة السياسة الحيوية للاستعمار الإسرائيلي في فلسطين بهدف التمهيد لنشوء "أنثروبولوجيا طبية عربية". وتشمل هذه الدراسة محاولة التعرف الى دور الصحة العامة في شرعنة السلطة العربية، وتحولات الخريطة العلاجية تحت تأثير الحروب المستوطنة في المنطقة، وتفكك الدولة الحديثة، وفهم آليات التحكم بالجسم الفلسطيني من طريق الإدارة الحيوية للحياة والصحة.
ويبرز أهمية تطوير الأبحاث في حقل "الأنثروبولوجيا الطبية العربية"، وكيفية الوصول الى فهم أفضل للتطبيقات الإسرائيلية في مجال السياسة الحيوية، والتحكم بصحة الفلسطينيين وحياتهم. لقد اكتشف الإسرائيلي في قطاع غزة أن إصابة الجسد الفلسطيني هي التي تحوله الى أداة معطلة للطاقة الفلسطينية، ومنتجة للاحتلال الإسرائيلي، من خلال إدارة أعمال الإغاثة والمعابر والموانئ ودخول الأموال. أما في الضفة الغربية، فإن الاحتلال الإسرائيلي يربط المجتمع الفلسطيني كليا باقتصاده وأمنه، وعلى هذا النحو يتحكم بحياة الفلسطينيين.