نظام البشير يتصدى للثورة في دارفور
دفعت مجريات الثورة المسلحة في دارفور بنظام البشير إلى الاستعانة بالقبائل العربية وزيادة تسليحها. فاندفع في تجنيد وتسليح "الجنجويد" لمحاربة تمرد الحركات الدارفورية، مستخدما العوامل العرقية والقبلية لتجنيد مقاتلين من القبائل العربية الدارفورية ضد الحركات المتمردة.
وهو ما أدى لبروز ميليشيا "الجنجويد" كقوة رئيسة في الحرب داخل دارفور. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها نظام عمر البشير بإنشاء واستخدام ميليشيات.
في أوائل التسعينات، شكلت الحكومة السودانية "قوات الدفاع الشعبي" التي تألفت من أعضاء وأنصار الجبهة القومية الإسلامية الذين خططوا ونفذوا الانقلاب الذي أوصل البشير إلى السلطة عام 1989. وعلى الأقل في ذلك الوقت، حاول النظام السيطرة على هذه الميليشيا ضمن إطار قانوني وتحت سيطرة الجيش.
ولم يكن هذا هو الحال بالنسبة لـ"الجنجويد"، الذين أنكرت الحكومة أي صلة رسمية بهم واتخذت من ذلك خط دفاعها الأول عندما ظهرت جرائمهم إلى العلن. ارتكب "الجنجويد" خلال الحرب في إقليم دارفور جرائم التقتيل والحرب والنهب والاغتصاب ضد القبائل الأفريقية وتحت إشراف ودعم النظام الحاكم، الذي كان يسعى لمعاقبة أهل دارفور بشكل جماعي جراء تمرد الحركات المسلحة.
محمد حمدان دقلو (حميدتي) شمال غرب الخرطوم في عام 2019
ولعب موسى هلال، الزعيم القبلي لعشيرة المحاميد العربية في دارفور، الدور المركزي في صناعة "الجنجويد" الحديثة. وحصل هلال- الذي كان مسجونا في الوقت الذي اندلعت فيه حرب دارفور الأولى لارتكابه جرائم جنائية بعضها ذات طبيعة عنصرية في ذلك الوقت- على إطلاق سراح وعفو قضائي من قبل نائب الرئيس السوداني علي عثمان طه.
وطُلب من هلال في المقابل تجنيد أفراد من القبائل العربية في دارفور للانضمام إلى الحكومة في قتالها ضد المتمردين في دارفور. أكد هلال بعد ذلك بعامين، هذه القصة في مقابلة مع "هيومان رايتس ووتش" لكنه نفى أي تورط شخصي في أي انتهاكات.
وقال إن ميليشياته تعمل بتوجيهات من الحكومة المركزية في الخرطوم، ووصف أفعالهم بأنها حرب مقدسة (جهاد)، مذكرا بخطاب الهيمنة نفسه الذي استخدمه النظام في وصف الحرب الأهلية في جنوب السودان. وسرعان ما اتبع زعماء القبائل الآخرون من أصول عربية في دارفور طريق هلال للحفاظ على روابطهم مع الحكومة، بينما رفض عدد قليل من القادة المشاركة في هذه النزعة العسكرية العشوائية.
وعلى الرغم من أن النظام استمر في إنكار أي ارتباطات مع "الجنجويد" مدعيا أن هذه القوات هي مجرد ميليشيات قبلية شكلتها القبائل المحلية للدفاع عن النفس، فقد ظهرت أدلة بما في ذلك شهادات من أعضاء الميليشيات تؤكد التمويل الحكومي والتسليح والتوجيه لـ"الجنجويد".
وقد تسببت قوات "الجنجويد" في تفاقم الوضع في دارفور من خلال التجنيد العشوائي، وعدم تزويدهم بأي تدريب عسكري رسمي، مع تسليحهم بشكل كبير، حيث سعت حكومة الخرطوم لتحقيق نصر سريع وحاسم، والذي مضى إلى حدود انعدمت معها أي معقولية أو أطر قانونية.
وتم ارتكاب وممارسة انتهاكات وجرائم خطيرة بحق المدنيين من سكان دارفور. إلى درجة أن قائمة الجرائم التي وجهتها المحكمة الجنائية الدولية بخصوص الوضع في دارفور شملت الإبادة الجماعية، والقتل الجماعي، والاغتصاب، وغير ذلك من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
برز اسم محمد حمدان دقلو (حميدتي) القائد الحالي لـ"قوات الدعم السريع"، كأحد قيادات "الجنجويد" البارزين في تلك الفترة. وبعد استقلال جنوب السودان، عادت الحرب إلى ولايتي جنوب كردفان، والنيل الأزرق، بالإضافة إلى الصراع المستمر في دارفور، وتأسيس الجبهة الثورية السودانية عام 2011 كتحالف يوحد الحركات المسلحة في دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق. وأعاد نظام البشير إضفاء الطابع المؤسسي على ميليشياته ولكن هذه المرة كقوات مقاتلة شبه رسمية.
وقام نظام البشير، الذي كان يخوض حربا أهلية في نصف دائرة واسعة في غرب وجنوب البلاد، بتأسيس "قوات الدعم السريع" كجزء من جهاز المخابرات والأمن الوطني الذي كان يتمتع عملاؤه بالحصانة القانونية الكاملة. لم تكن ميليشيا قوات الدعم السريع تخليقا جديدا، بل إعادة تأهيل لإحدى ميليشيات "الجنجويد" التي كانت موجودة بالفعل تحت قيادة حميدتي.
محمد حمدان دقلو نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي بالسودان وقائد "قوات الدعم السريع"
كان أحد الاختلافات الرئيسة بين حميدتي وزعماء "الجنجويد" من الطراز القديم هو افتقار حميدتي إلى المكانة الاجتماعية للقيادة القبلية، التي يتمتع بها هلال وغيره من زعماء القبائل. كان هذا الفارق السابق بمثابة ميزة تفضيلية لحميدتي في نظر نظام البشير. وكان يُنظر إليه على أنه متعطش للمكانة الاجتماعية والمال والاعتراف الذي تمنحه له الرتبة العسكرية، كما أنه ليست لديه مصالح عشائرية أو حسابات قبلية تقليدية يحميها، والتي قد تتقاطع مع معادلة النظام في سعيه لبسط سيطرته على المنطقة. ولهذا، عندما قرر جهاز الأمن والمخابرات الوطني تولي مهمة قتال الحركات المسلحة بعد الإخفاقات المستمرة للقوات المسلحة السودانية، كان حميدتي ورجاله جاهزين للشراء.
بنى حميدتي دائرة تأثيره باستخدام نفوذه المالي كصاحب ميليشيا ناجح، تحصل على ولاء رجاله من خلال تأمين دخل منتظم وسخي لهم، بالإضافة إلى اتفاقه مع الحكومة حينها على منهج التجنيد بالتغنيم واستخدام (الفزع) القبلي كآلية للتجنيد. وقد أشار حميدتي إلى ذلك في مؤتمر صحافي في مايو 2014، والذي أكد فيه قدرته على تجنيد 100 ألف مقاتل للقتال إلى جانب النظام إذا لزم الأمر، لأنهم لا يملكون مصادر دخل أخرى. وهذا في الواقع أدخل عامل جذب جديدا للانضمام إلى "الجنجويد"، وهو العامل المالي الذي يذكرنا على الدوام بأن الصراعات الاقتصادية على الموارد كانت أحد الأسباب الرئيسة لإشعال الصراع الدارفوري في صفحته الأولى.
ولا يزال هذا العامل هو الأقوى في التجنيد الذي تستخدمه الميليشيا في جذب المرتزقة المقاتلين إلى صفوفها عبر إغرائهم بغنائم عمليات النهب التي تمت في الخرطوم وأم درمان ومدني وغيرها من المدن التي استولت عليها الميليشيا منذ بداية الحرب في أبريل/نيسان 2023، أو الساسة الذين يقدمون دعمهم السياسي والإعلامي لها مقابل وعود ضمان وجودهم في الساحة السياسية.
لم تكن علاقة حميدتي مع نظام البشير طيبة على الدوام، فقد كان حميدتي على الدوام يسعى لتحالفات مرحلية تضمن زيادة نفوذه وسلطاته، وما فتئ يلعب لصالح أوراقه الخاصة ومصالحه. ففي مارس/آذار من عام 2006 وقّع حميدتي مذكرة تفاهم مع "حركة العدل والمساواة" في أبيشي التشادية يقضي بعدم الاعتداء المتبادل، وهو الأمر الذي لم تكن الحكومة ولا نظام البشير على علم به. وهو ما دفع البشير لاستدعائه إلى الخرطوم لعقد اجتماعين مع الرئيس البشير ووزير الدفاع وقتها عبد الرحيم محمد حسين. ولكن حميدتي مستشعرا حوجة الحكومة المركزية له وضعفها لم يتوقف، ووقع اتفاقا مماثلا مع حركة عبد الواحد في يونيو 2007.
استغل حميدتي ضعف الحكومة وحوجتها لخدماته بأفضل شكل ممكن لتوطيد دعائم نفوذه في الساحة. وبعد حادث مقتل ابن عمه محمد هادي عمير، الشهير بـ"دغيرشو"، في حفل زفاف، بعد أيام قليلة من قيام رجاله باعتقال 12 من رجال موسى هلال زعيم عشيرة المحاميد وقائد "الجنجويد" المعتمد من قبل النظام. رفض الماهرية الدية وطالبوا بحياة موسى هلال. رفض حميدتي وساطة الحكومة وهدد بالانضمام إلى المتمردين في جبل مرة إذا لم تُعط الحكومة رواتب الجيش لخمسمائة من رجاله وتدفع تعويضات لأسر من سقطوا في القتال، وتعطي عشيرته (الماهرية) مناصب النظارة ومواقع حكومية في المحلية وهي الوحدة الأساسية في نظام الحكم المحلي في السودان.
لاحقا تمت تسوية الخلاف في مايو2007 ، عندما أقسم موسى هلال على القرآن بأنه ليس لديه ضلع في وفاة دغيرشو ووعدت الحكومة بتقديم 50 عربة قتالية و500 ألف دولار لحميدتي. ولكن يبدو أن ذلك لم يكن كافيا لحميدتي، فقد بدأ في التحضير لتمرده المعلن في الفترة بين أغسطس/آب إلى أكتوبر/تشرين الأول 2007، وقام بتهديد الحكومة باجتياح مدينة نيالا عاصمة جنوب دارفور. وادعى حميدتي حينها تشكيل جماعة مسلحة باسم الجبهة الثورية السودانية بمعية مهندس ذي ميول يسارية اسمه أنور خاطر.
ووصف بيان تأسيس هذه المجموعة التي قالت إنها تتمرد لاستعادة الحقوق، وصف حميدتي بأنه "القائد الأعلى"، فيما تمت تسمية خاطر في منصب الأمين العام.
أطلق حميدتي على قواته اسم "قوات الوعد الصادق". وشاهد زوار قاعدة حميدتي بالقرب من أم القرى بعد تمرده كميات كبيرة من بنادق الكلاشينكوف وبنادق قنص وقاذفات قنابل يدوية (آر بي جي) ومركبات من طراز لاندركروزر تعلوها مدافع رشاشة ومدافع مضادة للدبابات وقاذفات صواريخ متعددة وصواريخ مضادة للطائرات ومدافع هاون، وبنادق عديمة الارتداد بعيار 105م، بالإضافة إلى هواتف ثريا وأجهزة راديو محمولة باليد، وكلها تجهيزات لم تشاهد من قبل لدى مجموعات المتمردين والحركات المسلحة العاملة في دارفور.
في مطلع 2008، عاد حميدتي إلى حكومة البشير. وفشلت محاولاته في التوحد تحت مظلة "حركة خاطر" والتي رفضت قواعدها الاندماج مع حميدتي. ونفى أنور خاطر مرارا تشكيل تحالف مع حميدتي، قائلا إن حميدتي تواصل معه هاتفيا مرات عديدة، لكنه رفض الوحدة معه بسبب انتهاكات حميدتي لحقوق الإنسان. كما فشلت محاولاته في الانضمام لحركة "جيش تحرير السودان" وهو الأمر الذي تحدث عنه حميدتي بمرارة متهما قادتها بأنهم يسعون وراء مصالحهم الذاتية.
قطع حميدتي حينها صفقة مع نظام البشير لإدراج 3000 من رجاله في الجيش النظامي مع الوعد بتدريب وترقية 300 منهم لرتب الضباط. وأيضا شملت الصفقة إعادة قطع الأسلحة الثقيلة التي كان منحها لهم الجيش للقتال ضد الحركات المسلحة قبل تمرده. وعادت الحكومة إلى الاعتماد الكبير على حميدتي في فبراير 2009 عندما اعتمد نظام البشير على قواته لإخراج "حركة العدل والمساواة" من مدينة مهاجرية في جنوب دارفور.