جذور الميليشيات في مأساة السودان الجديدةhttps://www.majalla.com/node/309351/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%AC%D8%B0%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%B4%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%A3%D8%B3%D8%A7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9
ظهر مصطلح الجهات الفاعلة غير الحكومية (non-state actors)، بشكل متزايد في النصف الثاني من القرن الماضي. وتنوعت أشكال هذه الجهات بشكل كبير بين الشركات العابرة للقارات والمنظمات غير الحكومية وجماعات الضغط والحركات المسلحة وغيرها، ولكنها اشتركت جميعها في أنها تتمتع بنفوذ وتأثير مستقل عن حكومات الدول ذات السيادة المنشأة على نسق اتفاق صلح ويستفاليا (1648)، الذي أرسى مبدأ السيادة وأنهى فترة حروب القرون الوسطى في أوروبا، وصاغ أركان تأسيس الدولة الحديثة، وبطبيعة الحال كانت الإمبراطورية البابوية (الإمبراطورية الرومانية المقدسة كما كانت تسمى) هي أول ضحايا هذا الاتفاق الذي تسبب في أن تفقد الكنيسة نفوذها السياسي وتنزوي تدريجيا في شكل الفاتيكان الحالي.
في السودان، ومنذ استقلاله الحديث، تعددت الجهات الفاعلة غير الحكومية وخصوصا المسلحة منها بشكل كبير. تأسست حركة "الأنانيا" (والاسم يعني سم الثعبان الأسود بلغة المادي المنتشرة جنوبي السودان) في عام 1955 (قبل إعلان الاستقلال في يناير/كانون الثاني 1956) لتحارب الحكومة المركزية في الحرب الأهلية السودانية الأولى (حرب الجنوب الأولى 1955-1972) والتي انتهت بتوقيع اتفاق سلام مع نظام جعفر نميري 1969-1985)، ولكن اتفاق السلام الذي تم توقيعه في أديس أبابا في مارس/آذار 1972 انهار عام 1983، وأعلنت حركة "الأنانيا تو"- والتي تطورت لاحقا لتصبح "الحركة الشعبية لتحرير السودان"- عن نفسها لتخوض الحرب الأهلية السودانية الثانية (1972-2005) بقيادة الراحل جون قرنق والتي انتهت بتوقيع اتفاق السلام الشامل في 2005 والذي أفضى إلى انفصال جنوب السودان كدولة مستقلة في العام 2011.
في إقليم دارفور غربي السودان، تضافرت عدة عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية لتنتج حالة عدم الاستقرار في الإقليم. ظهرت المجموعات المسلحة في الإقليم بشكل متزايد منذ سبعينات وثمانينات القرن الماضي. حيث قام نظام العقيد معمر القذافي في ليبيا بتسليح القبائل العربية الممتدة في منطقة الساحل والمنتشرة في إقليم دارفور ودولة تشاد، واستخدمها بكثافة في سياق الحرب الليبية– التشادية (1978-1987) حول قطاع أوزو، وهو شريط من الأرض الغنية باليورانيوم والمنجنيز، يبلغ طوله 600 ميل شمالي تشاد على الحدود مع ليبيا.
قام القذافي بإمداد كثيف للأسلحة لصالح القبائل العربية التي تمتهن الرعي وتتنقل بشكل طبيعي ومفتوح في معية قطعانها بين إقليم دارفور ودولة تشاد لتقوم بمهام قوات المشاة والاستطلاع في المعارك التي شهدها ذلك النزاع. عادت العلاقات بين تشاد وليبيا إلى طبيعتها عام 1988 وتم رفع الخلاف حول إقليم أوزو إلى محكمة العدل الدولية والتي أنهت النزاع بشكل نهائي بحكمها بتبعية الإقليم إلى تشاد في فبراير/شباط 1994.
ولكن الآثار التي خلفتها هذه الحرب انعكست بشكل عميق على السودان وبالخصوص إقليم دارفور. فقد أدى انتشار السلاح الذي وزعه القذافي على القبائل العربية إلى اندلاع نزاعات ذات طابع مسلح وعنيف بشكل كبير بين القبائل. خصوصا مع موجة الجفاف والتصحر (1983–1985) التي ضربت المنطقة وأدت إلى فشل المحاصيل الزراعية ومجاعة واسعة النطاق. وكما أدت موجة الجفاف إلى تناقص مساحات الرعي وتداخلها مع الأراضي الزراعية، تمدد الرعاة في المناطق الزراعية سعيا وراء الكلأ لقطعانهم مما نتج عنه صدامات بين القبائل التي تعمل في مجال الرعي (وتنتمي غالبيتها إلى العناصر العربية في دارفور) والقبائل التي تعمل في مجال الزراعة (والتي تنتمي غالبيتها إلى العناصر الأفريقية).
في السودان، ومنذ استقلاله الحديث، تعددت الجهات الفاعلة غير الحكومية وخصوصا المسلحة منها بشكل كبير
وقد تسبب انتشار السلاح الليبي في الإقليم وفي أوساط القبائل العربية في أن تأخذ هذه الصدامات شكلا عنيفا وتظهر في شكل غارات تهدف إلى طرد المزارعين من أراضيهم لاستخدامها للرعي. وكما أدى الوضع الاقتصادي المتردي الذي تسبب فيه انهيار سبل العيش التقليدية المتمثلة في الرعي والزراعة إلى بروز ظاهرة النهب المسلح بشكل كبير، وظهور ما تم الاصطلاح على تسميته بـ"الجنجويد"، في إشارة إلى قطاع الطرق (الكلمة مركبة في الأصل من أربع كلمات: "جني على ظهر جواد" يحمل بندقية "جيم ثري" وهي السلاح الشخصي الأساسي الذي وزعه الليبيون في المنطقة).
جذور حراك التمرد في دارفور
شهدت الفترة بين 2002–2003، إعلان اندلاع الثورة المسلحة في دارفور ضد نظام البشير. واستندت تنظيمات "حركة تحرير السودان"، و"حركة العدل والمساواة" إلى مظالم سياسية متعلقة بالتهميش الاقتصادي والسياسي لإقليم دارفور، والذي تفاقم بشكل أوضح بعد استيلاء "الإخوان المسلمين" على الحكم في السودان على أثر انقلاب 30 يونيو/حزيران 1989 والتي عملت على تمكين العناصر العربية في دارفور في إطار نشر وتوطيد دعائم هيمنة الأيديولوجيا الإسلاموعروبية التي تبنتها.
تكونت حركات الكفاح المسلح الدارفورية بشكل رئيس من القبائل غير العربية في دارفور. وتأسست حركة/ "جيش تحرير السودان" عام 2002 كحركة مسلحة واسعة تضم عناصر من القبائل الرئيسة غير العربية في دارفور: الفور والزغاوة والمساليت.
وقد تأسست الحركة بنواة مكونة من 17 شخصا أسسها عبد الله أبكر خاطر (الذي قُتل في وقت مبكر من معارك الحركة مع الجيش السوداني في مايو/أيار 2004). بعد ذلك، أوكلت قيادة الحركة إلى ممثلي القبائل الثلاث الكبرى التي أسست العمل المسلح.
كانت الرئاسة لقبيلة الفور ممثلة في عبد الواحد محمد نور، ونائبه من قبيلة المساليت خميس أبكر، وهو والي غرب دارفور الراحل الذي اغتالته ميليشيا قوات الدعم السريع، ومثلت بجثته بداية الحرب الحالية)، وفيما أوكلت مهام الأمانة العامة لقبيلة الزغاوة وكلف بها ميني مناوي.
الآثار التي خلفتها الحرب الليبية- التشادية انعكست بشكل عميق على السودان، وخاصة إقليم دارفور
وفي فبراير 2005، دبت الخلافات داخل الحركة حول مسار مفاوضات السلام التي كانت تجرى في أبوجا. واندلعت الخلافات بشكل أكبر في مؤتمر حسكنيتة (المؤتمر التنظيمي للحركة الذي انعقد في نوفمبر/تشرين الثاني 2005)، والذي انتهى بإعلان انقسام الحركة إلى فصيلين بقيادة عبد الواحد نور، والآخر بقيادة ميني مناوي. فيما تأسست حركة العدل والمساواة عام 2002 على يد دكتور خليل إبراهيم.
كان خليل من قيادات نظام البشير وعرف بانتمائه للحركة الإسلامية منذ أن كان طالبا، وشغل عدة مناصب في ظل نظام المؤتمر الوطني، منها وزير التربية والتعليم في إقليم دارفور بين 1991-1994 ثم وزير الشؤون الاجتماعية بولاية النيل الأزرق بين 1997-1998، ثم مستشار حاكم ولاية وسط الاستوائية حتى استقالته في أغسطس/آب 1998.
وفي ديسمبر/كانون الأول 1999 انضم خليل إلى حسن الترابي في انشقاقه عن حزب المؤتمر الوطني وقيامه بتشكيل حزب المؤتمر الشعبي. وكان خليل حينها في هولندا يدرس للحصول على الماجستير في الصحة العامة، ومن هناك أعلن عن تشكيل "حركة العدل والمساواة".
انحصرت السيطرة على الحركة في مجموعة عرقية صغيرة (الزغاوة كوبي) وتضمنت كثيرا من العلائق الاجتماعية وعلاقات القربى عبر الحدود التشادية. وتلقت الحركة في بداية تأسيسها دعما سياسيا وماليا كبيرا من الزعيم الليبي السابق معمر القذافي. وبعد أن أطاحت الثورة الليبية بالقذافي، اضطر خليل إلى الفرار من ليبيا والعودة إلى السودان. وفي 23 ديسمبر 2011، أعلنت القوات المسلحة السودانية أنها قتلت إبراهيم بضربة جوية في شمال كردفان، وانتقلت قيادة الحركة بعد ذلك إلى شقيقه جبريل إبراهيم والذي يملك خلفية سياسية مماثلة داخل الحركة الإسلامية.
تكونت حركات الكفاح المسلح الدارفورية بشكل رئيس من القبائل غير العربية في دارفور.
نظام البشير يتصدى للثورة في دارفور
دفعت مجريات الثورة المسلحة في دارفور بنظام البشير إلى الاستعانة بالقبائل العربية وزيادة تسليحها. فاندفع في تجنيد وتسليح "الجنجويد" لمحاربة تمرد الحركات الدارفورية، مستخدما العوامل العرقية والقبلية لتجنيد مقاتلين من القبائل العربية الدارفورية ضد الحركات المتمردة.
وهو ما أدى لبروز ميليشيا "الجنجويد" كقوة رئيسة في الحرب داخل دارفور. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها نظام عمر البشير بإنشاء واستخدام ميليشيات.
في أوائل التسعينات، شكلت الحكومة السودانية "قوات الدفاع الشعبي" التي تألفت من أعضاء وأنصار الجبهة القومية الإسلامية الذين خططوا ونفذوا الانقلاب الذي أوصل البشير إلى السلطة عام 1989. وعلى الأقل في ذلك الوقت، حاول النظام السيطرة على هذه الميليشيا ضمن إطار قانوني وتحت سيطرة الجيش.
ولم يكن هذا هو الحال بالنسبة لـ"الجنجويد"، الذين أنكرت الحكومة أي صلة رسمية بهم واتخذت من ذلك خط دفاعها الأول عندما ظهرت جرائمهم إلى العلن. ارتكب "الجنجويد" خلال الحرب في إقليم دارفور جرائم التقتيل والحرب والنهب والاغتصاب ضد القبائل الأفريقية وتحت إشراف ودعم النظام الحاكم، الذي كان يسعى لمعاقبة أهل دارفور بشكل جماعي جراء تمرد الحركات المسلحة.
ولعب موسى هلال، الزعيم القبلي لعشيرة المحاميد العربية في دارفور، الدور المركزي في صناعة "الجنجويد" الحديثة. وحصل هلال- الذي كان مسجونا في الوقت الذي اندلعت فيه حرب دارفور الأولى لارتكابه جرائم جنائية بعضها ذات طبيعة عنصرية في ذلك الوقت- على إطلاق سراح وعفو قضائي من قبل نائب الرئيس السوداني علي عثمان طه.
وطُلب من هلال في المقابل تجنيد أفراد من القبائل العربية في دارفور للانضمام إلى الحكومة في قتالها ضد المتمردين في دارفور. أكد هلال بعد ذلك بعامين، هذه القصة في مقابلة مع "هيومان رايتس ووتش" لكنه نفى أي تورط شخصي في أي انتهاكات.
وقال إن ميليشياته تعمل بتوجيهات من الحكومة المركزية في الخرطوم، ووصف أفعالهم بأنها حرب مقدسة (جهاد)، مذكرا بخطاب الهيمنة نفسه الذي استخدمه النظام في وصف الحرب الأهلية في جنوب السودان. وسرعان ما اتبع زعماء القبائل الآخرون من أصول عربية في دارفور طريق هلال للحفاظ على روابطهم مع الحكومة، بينما رفض عدد قليل من القادة المشاركة في هذه النزعة العسكرية العشوائية.
وعلى الرغم من أن النظام استمر في إنكار أي ارتباطات مع "الجنجويد" مدعيا أن هذه القوات هي مجرد ميليشيات قبلية شكلتها القبائل المحلية للدفاع عن النفس، فقد ظهرت أدلة بما في ذلك شهادات من أعضاء الميليشيات تؤكد التمويل الحكومي والتسليح والتوجيه لـ"الجنجويد".
وقد تسببت قوات "الجنجويد" في تفاقم الوضع في دارفور من خلال التجنيد العشوائي، وعدم تزويدهم بأي تدريب عسكري رسمي، مع تسليحهم بشكل كبير، حيث سعت حكومة الخرطوم لتحقيق نصر سريع وحاسم، والذي مضى إلى حدود انعدمت معها أي معقولية أو أطر قانونية.
وتم ارتكاب وممارسة انتهاكات وجرائم خطيرة بحق المدنيين من سكان دارفور. إلى درجة أن قائمة الجرائم التي وجهتها المحكمة الجنائية الدولية بخصوص الوضع في دارفور شملت الإبادة الجماعية، والقتل الجماعي، والاغتصاب، وغير ذلك من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
برز اسم محمد حمدان دقلو (حميدتي) القائد الحالي لـ"قوات الدعم السريع"، كأحد قيادات "الجنجويد" البارزين في تلك الفترة. وبعد استقلال جنوب السودان، عادت الحرب إلى ولايتي جنوب كردفان، والنيل الأزرق، بالإضافة إلى الصراع المستمر في دارفور، وتأسيس الجبهة الثورية السودانية عام 2011 كتحالف يوحد الحركات المسلحة في دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق. وأعاد نظام البشير إضفاء الطابع المؤسسي على ميليشياته ولكن هذه المرة كقوات مقاتلة شبه رسمية.
وقام نظام البشير، الذي كان يخوض حربا أهلية في نصف دائرة واسعة في غرب وجنوب البلاد، بتأسيس "قوات الدعم السريع" كجزء من جهاز المخابرات والأمن الوطني الذي كان يتمتع عملاؤه بالحصانة القانونية الكاملة. لم تكن ميليشيا قوات الدعم السريع تخليقا جديدا، بل إعادة تأهيل لإحدى ميليشيات "الجنجويد" التي كانت موجودة بالفعل تحت قيادة حميدتي.
كان أحد الاختلافات الرئيسة بين حميدتي وزعماء "الجنجويد" من الطراز القديم هو افتقار حميدتي إلى المكانة الاجتماعية للقيادة القبلية، التي يتمتع بها هلال وغيره من زعماء القبائل. كان هذا الفارق السابق بمثابة ميزة تفضيلية لحميدتي في نظر نظام البشير. وكان يُنظر إليه على أنه متعطش للمكانة الاجتماعية والمال والاعتراف الذي تمنحه له الرتبة العسكرية، كما أنه ليست لديه مصالح عشائرية أو حسابات قبلية تقليدية يحميها، والتي قد تتقاطع مع معادلة النظام في سعيه لبسط سيطرته على المنطقة. ولهذا، عندما قرر جهاز الأمن والمخابرات الوطني تولي مهمة قتال الحركات المسلحة بعد الإخفاقات المستمرة للقوات المسلحة السودانية، كان حميدتي ورجاله جاهزين للشراء.
بنى حميدتي دائرة تأثيره باستخدام نفوذه المالي كصاحب ميليشيا ناجح، تحصل على ولاء رجاله من خلال تأمين دخل منتظم وسخي لهم، بالإضافة إلى اتفاقه مع الحكومة حينها على منهج التجنيد بالتغنيم واستخدام (الفزع) القبلي كآلية للتجنيد. وقد أشار حميدتي إلى ذلك في مؤتمر صحافي في مايو 2014، والذي أكد فيه قدرته على تجنيد 100 ألف مقاتل للقتال إلى جانب النظام إذا لزم الأمر، لأنهم لا يملكون مصادر دخل أخرى. وهذا في الواقع أدخل عامل جذب جديدا للانضمام إلى "الجنجويد"، وهو العامل المالي الذي يذكرنا على الدوام بأن الصراعات الاقتصادية على الموارد كانت أحد الأسباب الرئيسة لإشعال الصراع الدارفوري في صفحته الأولى.
ولا يزال هذا العامل هو الأقوى في التجنيد الذي تستخدمه الميليشيا في جذب المرتزقة المقاتلين إلى صفوفها عبر إغرائهم بغنائم عمليات النهب التي تمت في الخرطوم وأم درمان ومدني وغيرها من المدن التي استولت عليها الميليشيا منذ بداية الحرب في أبريل/نيسان 2023، أو الساسة الذين يقدمون دعمهم السياسي والإعلامي لها مقابل وعود ضمان وجودهم في الساحة السياسية.
لم تكن علاقة حميدتي مع نظام البشير طيبة على الدوام، فقد كان حميدتي على الدوام يسعى لتحالفات مرحلية تضمن زيادة نفوذه وسلطاته، وما فتئ يلعب لصالح أوراقه الخاصة ومصالحه. ففي مارس/آذار من عام 2006 وقّع حميدتي مذكرة تفاهم مع "حركة العدل والمساواة" في أبيشي التشادية يقضي بعدم الاعتداء المتبادل، وهو الأمر الذي لم تكن الحكومة ولا نظام البشير على علم به. وهو ما دفع البشير لاستدعائه إلى الخرطوم لعقد اجتماعين مع الرئيس البشير ووزير الدفاع وقتها عبد الرحيم محمد حسين. ولكن حميدتي مستشعرا حوجة الحكومة المركزية له وضعفها لم يتوقف، ووقع اتفاقا مماثلا مع حركة عبد الواحد في يونيو 2007.
استغل حميدتي ضعف الحكومة وحوجتها لخدماته بأفضل شكل ممكن لتوطيد دعائم نفوذه في الساحة. وبعد حادث مقتل ابن عمه محمد هادي عمير، الشهير بـ"دغيرشو"، في حفل زفاف، بعد أيام قليلة من قيام رجاله باعتقال 12 من رجال موسى هلال زعيم عشيرة المحاميد وقائد "الجنجويد" المعتمد من قبل النظام. رفض الماهرية الدية وطالبوا بحياة موسى هلال. رفض حميدتي وساطة الحكومة وهدد بالانضمام إلى المتمردين في جبل مرة إذا لم تُعط الحكومة رواتب الجيش لخمسمائة من رجاله وتدفع تعويضات لأسر من سقطوا في القتال، وتعطي عشيرته (الماهرية) مناصب النظارة ومواقع حكومية في المحلية وهي الوحدة الأساسية في نظام الحكم المحلي في السودان.
لاحقا تمت تسوية الخلاف في مايو2007 ، عندما أقسم موسى هلال على القرآن بأنه ليس لديه ضلع في وفاة دغيرشو ووعدت الحكومة بتقديم 50 عربة قتالية و500 ألف دولار لحميدتي. ولكن يبدو أن ذلك لم يكن كافيا لحميدتي، فقد بدأ في التحضير لتمرده المعلن في الفترة بين أغسطس/آب إلى أكتوبر/تشرين الأول 2007، وقام بتهديد الحكومة باجتياح مدينة نيالا عاصمة جنوب دارفور. وادعى حميدتي حينها تشكيل جماعة مسلحة باسم الجبهة الثورية السودانية بمعية مهندس ذي ميول يسارية اسمه أنور خاطر.
ووصف بيان تأسيس هذه المجموعة التي قالت إنها تتمرد لاستعادة الحقوق، وصف حميدتي بأنه "القائد الأعلى"، فيما تمت تسمية خاطر في منصب الأمين العام.
أطلق حميدتي على قواته اسم "قوات الوعد الصادق". وشاهد زوار قاعدة حميدتي بالقرب من أم القرى بعد تمرده كميات كبيرة من بنادق الكلاشينكوف وبنادق قنص وقاذفات قنابل يدوية (آر بي جي) ومركبات من طراز لاندركروزر تعلوها مدافع رشاشة ومدافع مضادة للدبابات وقاذفات صواريخ متعددة وصواريخ مضادة للطائرات ومدافع هاون، وبنادق عديمة الارتداد بعيار 105م، بالإضافة إلى هواتف ثريا وأجهزة راديو محمولة باليد، وكلها تجهيزات لم تشاهد من قبل لدى مجموعات المتمردين والحركات المسلحة العاملة في دارفور.
في مطلع 2008، عاد حميدتي إلى حكومة البشير. وفشلت محاولاته في التوحد تحت مظلة "حركة خاطر" والتي رفضت قواعدها الاندماج مع حميدتي. ونفى أنور خاطر مرارا تشكيل تحالف مع حميدتي، قائلا إن حميدتي تواصل معه هاتفيا مرات عديدة، لكنه رفض الوحدة معه بسبب انتهاكات حميدتي لحقوق الإنسان. كما فشلت محاولاته في الانضمام لحركة "جيش تحرير السودان" وهو الأمر الذي تحدث عنه حميدتي بمرارة متهما قادتها بأنهم يسعون وراء مصالحهم الذاتية.
قطع حميدتي حينها صفقة مع نظام البشير لإدراج 3000 من رجاله في الجيش النظامي مع الوعد بتدريب وترقية 300 منهم لرتب الضباط. وأيضا شملت الصفقة إعادة قطع الأسلحة الثقيلة التي كان منحها لهم الجيش للقتال ضد الحركات المسلحة قبل تمرده. وعادت الحكومة إلى الاعتماد الكبير على حميدتي في فبراير 2009 عندما اعتمد نظام البشير على قواته لإخراج "حركة العدل والمساواة" من مدينة مهاجرية في جنوب دارفور.
أول ظهور ومهمة رسمية لـ"قوات الدعم السريع" لم تكن في دارفور، بل كان ضد المتظاهرين السلميين في الخرطوم خلال انتفاضة سبتمبر/أيلول 2013
أول ظهور رسمي لـ"قوات الدعم السريع"
كان من اللافت للنظر، بعد إعادة تدويرها، أن أول ظهور ومهمة رسمية لـ"قوات الدعم السريع" لم تكن في دارفور ولا جبال النوبة ولا النيل الأزرق أو أي من مناطق الحرب الشاسعة في السودان. ولم يكن حتى ضد أي من المتمردين العسكريين. لقد كان ذلك ضد المتظاهرين السلميين في الخرطوم خلال انتفاضة سبتمبر 2013، حيث قامت "قوات الدعم السريع"- وفقا لما قاله مدير هيئة العمليات بجهاز الأمن والمخابرات الوطني حينها، اللواء علي النصيح– بالتصدي للأحداث واستعادة الاستقرار. وقُتل أكثر من 200 متظاهر سلمي بالرصاص في شوارع الخرطوم بالإضافة إلى مئات آخرين أصيبوا بجروح خطيرة خلال أيام قليلة من الاحتجاجات السلمية.
وبعد هذا التدشين الملحوظ، واصلت "قوات الدعم السريع" ملء سجلها بانتهاكات حقوقية من خلال حملة "عمليات الصيف الساخن" التي تم الإعلان عنها في دارفور وجبال النوبة بداية عام 2014. وأدت هذه العمليات إلى تدهور خطير في الوضع الإنساني بشكل فاق كل التصورات والحدود منذ الصراع عام 2003.
وقد أعلنت بعثة الأمم المتحدة إلى دارفور أن عدد النازحين داخليا في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2014 تجاوز 215 ألفا مع عدد غير معروف من الضحايا وعدد من القرى التي تم نهبها وإحراقها بالكامل. وأرجعت الأمم المتحدة في تقريرها المذكور تصاعد العنف بشكل مباشر إلى تدخلات "قوات الدعم السريع" وعملياتها. حيث أشعلت "قوات الدعم السريع" النار في دارفور في أقل من نصف عام 2014 بأكثر مما حدث منذ اندلاع الحرب في 2003. وأسفرت انتهاكات الميليشيا عن عواقب مماثلة في مناطق مختلفة من جبال النوبة وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وواصلت مضايقاتها للمواطنين حتى في المناطق غير الحربية كما حدث في شمال كردفان بشكل أدى إلى اشتباكهم مع الوالي أحمد هارون في منتصف فبراير 2014. وبدا واضحا أن سلطات وصلاحيات الميليشيا المعاد تدويرها قد تجاوزت سيطرة النظام، لكن ذلك لم يكن سوى مؤشر سطحي لما تتجه إليه "قوات الدعم السريع".
لم تتعظ حكومة البشير حتى سقوطها من حقيقة أن ميليشيا "قوات الدعم السريع" أصبحت بشكل متزايد كيانا سياسيا منفصلا، بامتدادات سياسية واقتصادية وحتى خارجية منفصلة عنها، ولا تملك بأي شكل سيطرة كاملة عليه. وهي تمتلك في الواقع القوة والنفوذ للضغط عليهم حتى ضد خطهم السياسي الرسمي. وتنامى نفوذ ميليشيا "قوات الدعم السريع" بشكل أكثر بعد الثورة والتغيير الذي أطاح بالبشير في أبريل/نيسان 2019.
وقد فرض حميدتي نفسه كنائب لرئيس المجلس العسكري الانتقالي، ثم لاحقا مجلس السيادة الانتقالي. وفرض نفسه كلاعب أساسي مستغلا الخلافات المدنية- المدنية، والمدنية- العسكرية، التي تتوجت بمشاركته في انقلاب 25 أكتوبر 2021 بالشراكة مع الجيش ثم الخلافات العسكرية- العسكرية التي ظهرت للعلن في أجلى صورها مع اندلاع الحرب الحالية في 15 أبريل 2023.
يدعي حميدتي حاليا أنه يحارب لإسقاط دولة 1956 وبناء دولة مواطنة متساوية، بينما تقوم قواته على أرض الواقع بارتكاب جرائم التقتيل العشوائي والإبادة الإثنية الجماعية والاغتصاب والنهب بشكل مكثف. الاختلاف الكبير في قصة حميدتي وقواته مع الحركات المسلحة السياسية الأخرى التي مرت على السودان، أن هذه القوات لم تنشأ بشكل طبيعي كنتاج لتفاعلات المجتمع ممثلة لأحد مكوناته أو تتبنى الكفاح المسلح كمنهج لتحقيق مطالب سياسية أو اجتماعية، ولكنها أداة ترويع وقمع تم إنشاؤها واستغلالها بواسطة نظام ديكتاتوري لحماية نفسه وخدمة مصالحه، وما يقوم به حميدتي الآن- وهو ما قام به على الدوام كما استعرضنا أعلاه- هو إعادة تسخيرها لخدمة مصالحه ومطامعه الخاصة، بالأصالة هذه المرة بدلا من عمله السابق بالوكالة عن البشير ونظام الإخوان المسلمين.
تشكل تلك الميليشيات خطرا على الاستقرار والحياة الطبيعية في السودان وفي المنطقة، وأن العمل على استعادة أي شكل من أشكال السلام أو الحياة الطبيعية في البلاد يتطلب السعي لإنهاء وجودها المؤسسي بكافة امتداداتها السرطانية.