في السنوات الأخيرة، قدّم المخرج ذائع الصيت عمرو سلامة عدة أعمال فنية، أشهرها كان مسلسل "ما وراء الطبيعة"، الذي عُرِض على المنصة الأميركية "نتفليكس". العمل المأخوذ عن قصص المراهقين الشهيرة التي تحمل الاسم نفسه للكاتب الراحل أحمد خالد توفيق، لم يكن أوفر تجارب سلامة حظا. افتقد المسلسل ذو الإنتاج الكبير، من ضمن عناصر عديدة، إلى تحقيق الانسجام الداخلي بين الحلقات نفسها. انصبهّ الاهتمام فيه على الخِدع والتكنيكات الشكلية، وكان ينبغي أن تأتي كلها بالطبع على الطراز الأميركي المُبهِر، وكأن هذا هو مقياس النجاح، وتلك هي المهارة. غاب المنطق الدرامي في رسم الشخصيات وفي تطوّر الأحداث، مما جعل من الصعب إنتاج أجزاء أخرى من السلسلة، أو على الأقل حتى إكمال مُشاهِدة الجزء المعروض منها إلى النهاية. في تجربة "ما وراء الطبيعة" بدا أن غرام عمرو سلامة بهوليوود، يسير ضده، لا معه، والقول نفسه يُمكن أن ينطبق على الكثيرين من أبناء الأجيال الشابة في الإخراج. إذ إن التقليد، يظل باهتا، إن لم تدعمه رؤية أصيلة تستفيد من العناصر الأجنبية وتدمجها بوعي في العمل الجديد.
إلى هذا، لا يُمكن حصر الكلام على تجربة سلامة الإخراجية في التأثر الزائد عن الحد بالأميركيين. ما زلنا نذكر له أعمالا مثل "زي انهاردة" و"أسماء" وحتى "الشيخ جاكسون"، وقد عبّرت عن شيء من هوية الجيل المولود في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، الجيل الذي تربى على الأفلام الأميركية المقصوصة منها المشاهد الجريئة، الذي قرأ قصص الجيب من تأليف خالد توفيق ونبيل فاروق، الجيل الذي لم يعثر على نفسه تقريبا وسط الزحام، والذي لاحقته الأحداث السياسية، بصورة أربكته، وذكرته مجددا أن المُتحكمين في المشهد ما زالوا من أجيال الكبار، أصحاب الفِكر المُتجمِد. لعمرو سلامة، أسلوبه في التعبير، وأيضا خفته، التي ربطته بمُشاهدين من تلك الأجيال، قد لا يكونون من مُحبي الفلسفة، ولا التأمل العميق للذات.
الموقف من العائلة
لا يأتي "شماريخ" خارج ولع سلامة بالنموذج الأميركي. وفي نظرة ما، قد يبدو كل هذا العالم السينمائي المُظلِم، عالم سليم العاهل وابنيه المُتصارِعين، مجرد ديكور يسمح بتحقيق مشاهد الانفجارات والمعارك وضرب الرصاص ومطاردات السيارات. لكن القول بذلك قد لا يكون مُنصفا في هذه الحالة. تبدو ثيمة علاقة هذا الجيل الشاب، مع أفراد عائلته، إحدى الثيمات المُفضلة في أعمال سلامة السينمائية.
رأينا مثلا في " زي انهاردة " التأثير المُدمِر لحضور ذلك الشقيق المُدمن، وكان يؤديه بالمناسبة أيضا آسر ياسين، في حياة شقيقته البطلة بسمة. وفي "الشيخ جاكسون"، لعبت العلاقة المتوترة مع الأب بعد موت الأم دورا في صياغة الهوس الديني الذي شكّل شخصية البطل لاحقا. في "شماريخ" سؤال عن العلاقة مع الأب، وإنما أيضا العلاقة مع الأخ، وهما كل مَنْ تبقى تقريبا من هذه العائلة.
تتمحور أزمة رؤوف أو "بارود" كما يُطلقون عليه في أنه ابن غير شرعي لسليم العاهل، حارب وحده، بعد انتحار أمه، في سبيل أن يحصل على اعتراف أبيه به. أما هذا الأب نفسه، فله ابن آخر، شرعي، يُشبهه إلى حد بعيد، وهو فارس، يلعب دوره آدم الشرقاوي، ويُقدمه الفيلم في صورة الشرير المثالي بقصة شعر غريبة، واستعداد مُستمِر للاغتصاب، إنه يقول مثلا إن شيئا لا يثيره عند المرأة إلا رفضها الحقيقي له (وهو سلوك موروث من الأب العاهل)، ناهيك عن سهولة قتل الحيوانات والبشر سواء كانوا أقارب له أم لا.
وكأنما ورث رؤوف من أمه الجارية المُغتصبَة الرِقة، وورث فارس من أمه الزوجة المتواطئة انغماسها في لعبة العنف التي يُجيدها سليم العاهل، إضافة طبعا إلى وراثته لطباع سليم العاهل نفسه، الذي يخطف النساء ويبعث ابنه رؤوف لقتل الرجال، ومنهم والد أمينة، يلعب دوره سامي مغاوري، الذي يذهب إليه في المشهد الأول من الفيلم، لهذا الغرض، وهناك يلتقي أمينة للمرة الأولى، هو من خلف القناع، وهي بوجهها المكشوف والمصدوم لمصرع لأبيها.
وإن كان رؤوف ذهب للقتل مدفوعا بأمر سليم العاهل واشتراطه كي يحصل على اعترافه، فإنه لا يظهر، أمام سقوط أمينة أرضا، كشخص قاس أو رجل قاتل، ولا يمتثل لبقية أوامر الأب بقتلها، بل على العكس يُقرر إنقاذها. ربما يفعل ذلك، لأنه رأى فيها شيئا من الرقة، التي اتسمت بها أمه، ودفعتها للانتحار، هربا من كل هذا الظلم الذي يزرعه من حوله أينما وجد سليم العاهل، بعد أن أنجبت له رؤوف.
هي متاهة كبيرة إذن، أدخل فيها عمرو سلامة بطليه، من جهة رؤوف بصراعه الداخلي بين الخير والشر، ومن جهة أمينة التي ستأخذ على عاتقها مهمة الانتقام من قاتل أبيها، بتقديمه للعدالة، فهي في الأساس مُحامية ماهرة، ومن دون أن تعرف، أن ذلك الذي يظهر باستمرار لإنقاذها كلما تعرضت للخطر قد يكون قاتل أبيها، والأهم من دون أن تعرف طبيعة هذه الأنشطة التي مارسها أبوها، والتي ربطته بعالم سليم العاهل الذي لا يُمكن أن يأتي من وراءه أي خير. أما لقاء الطرفين، بما يمثله من رحلة سينمائية مزدوجة للبطل، فمن المفترض أن يُقدم لنا على الشاشة قصة حُب متوقعة تُخفف من وطأة هذا الظلام، وتمنح رؤوف دافعا للقتال ضد الظلم، ورغبة في حماية أنثاه (هذه المرة استعان عمرو سلامة بخبير كوري لتنفيذ مشاهد الحركة، ليأتي الأكشن على الطريقة الكورية، في فيلم بالروح الأميركية).