"سنسحق أي سعي لاستقلال تايوان، والجيش في حالة تأهب للدفاع عن وحدة أراضي الصين".
هذا ما أعلنه المتحدث باسم وزارة الدفاع الصينية تشانغ شياو فانغ عشية الانتخابات التي أجريت في تايوان يوم 13 يناير/كانون الثاني الحالي. فقد نظرت بكين إلى اقتراع التايوانيين في هذه الانتخابات بوصفه اختيارا بين السلام والحرب. لم يحدث مثل ذلك في أي انتخابات تايوانية سابقة. لكن هذه الانتخابات ليست مثل سابقاتها من حيث المتنافسين فيها ونظرا لحالة العالم اليوم.
العالم في حالة توتر قصوى غير مسبوقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وهذا التوتر على أشده في أروقة السياسة الأميركية من جراء الانغماس في حربين طاحنتين في شرق أوروبا والشرق الأوسط. وحين يبلغ التوتر مثل هذا المستوى يمكن لأي تقدير خاطئ، أو موقف غير محسوب، أن يفجر الوضع في شرق آسيا أيضا.
ومن الطبيعي، إذن، أن تكون الصين أكثر قلقا من أي وقت مضى. ولكن قلقها لا يعود فقط إلى حالة العالم، الذي قال الرئيس السابق والمرشح الرئاسي الحالي دونالد ترمب عنه يوم 22 يناير/كانون الثاني الحالي إنه "ينفجر" بخلاف ما كان حين غادر البيت الأبيض.
لم تأت رياح الانتخابات بما اشتهته بكين، وفاز تشينغ تي الأكثر إزعاجا بالنسبة إليها
طبيعة الانتخابات التايوانية نفسها أثارت قلق بكين التي ما برحت تراقب ما سيترتب عليها، لأنها مختلفة عن سابقاتها؛ لاي تشينغ تي مرشح الحزب الحاكم منذ ثماني سنوات (الديمقراطي التقدمي) هو أحد أكثر دعاة الاستقلال تشددا. جنوحه إلى الاستقلال يفوق الرئيسة المنتهية ولايتها. وهذا خط أحمر بالنسبة إلى بكين التي تقبل على مضض، وإلى حين، تجاوز تايوان من الناحية الفعلية وضع الحكم الذاتي.
لقد تطلعت بكين إلى فوز أحد المرشحين اللذين نافساه، وهما: هويو إيه مرشح الحزب القومي (الكومنتانغ)، وكودين- جي مرشح حزب الشعب الأكثر مرونة في موقفه تجاه الصين حوارا معها وانفتاحا عليها. وربما راهنت على هويو إيه بصفة خاصة على أساس أن حزبه كان قد حقق إنجازا كبيرا في الانتخابات البلدية الأخيرة في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، وانتزع رئاسة العاصمة تايبيه من الحزب الحاكم.
لم تأت رياح الانتخابات بما اشتهته بكين، وفاز تشينغ تي الأكثر إزعاجا بالنسبة إليها. ويبدو أنه تعمد إعادة تأكيد موقفه "المزعج" في خطاب النصر أمام أنصاره، إذ قال: "إننا مصممون على حماية تايوان من الترهيب الصيني المستمر، وراغبون في الوقت نفسه في التعاون معها على قدم المساواة". وتباهى برسائل تهنئة تلقاها من واشنطن ولندن وطوكيو. وكان أن ردت بكين بشكل فوري، على لسان المتحدث باسم مكتب العلاقات مع تايوان في الحزب الشيوعي تشيني بيهوا الذي قال إن (نتيجة الانتخابات لن تعوق التوجه الحتمي لإعادة توحيد تايوان مع الصين).
ليس واضحا بعد كيف سيتصرف الرئيس التايواني الجديد، وبأية طريقة سيفي بتعهده لأنصاره بأن تمضي إدارته قدما في طريق الحصول على الاستقلال
وهكذا أعادت نتيجة الانتخابات في تايوان شبح حرب يعتبرها غير قليل من المراقبين مؤجلة ويمكن أن تنشب في أي وقت. ويحدث ذلك في لحظة يعم التوتر فيها العالم، ويرتفع صوت السلاح فيسكت الدبلوماسية أو يكاد في كل مكان تشتد فيه الحاجة إليها.
ولا يعني هذا أن حربا في شرق آسيا صارت وشيكة أو حتى قريبة. ولكن هذا ما تقود إليه حسابات عقلانية هادئة يبدو أنها آخذة في التناقص على المستوى الدولي بمقدار ما يزداد الانفعال الذي يصل أحيانا إلى حد الهستيريا في سياسات بعض الدول.
وليس متوقعا أن تتخلى الصين عن حساباتها العقلانية، التي يعتبرها مراقبون زائدة عن الحد، وحرصها على استكمال مقومات قوتها الشاملة قبل كل شيء. ولكن ليس واضحا بعد كيف سيتصرف الرئيس التايواني الجديد، وبأية طريقة سيفي بتعهده لأنصاره بأن تمضي إدارته قدما في طريق الحصول على الاستقلال. وربما لهذا أسرعت واشنطن إلى توجيه رسالة له تفيد بعدم رغبتها في التصعيد، إذ أعادت تأكيد موقفها المعلن، وهو أنها لا تدعم استقلال الجزيرة. وهذه رسالة إلى بكين في الوقت نفسه... رسالة طمأنة مطلوبة في هذا الوقت الحرج. ولكن الأهم منها في الفترة المقبلة هو سلوك واشنطن الفعلي في علاقتها مع الإدارة التايوانية الجديدة، التي يصعب الآن توقع الطريقة التي ستتصرف بها عقب تشكيلها، وهل تزيد قلق الصين أم تنقصه.
ومع ذلك ربما تحسب بكين نتيجة الانتخابات بطريقة أخرى قد تقلل قلقها، عبر تأمل توزيع أصوات الناخبين فيها؛ فالرئيس الجديد "المزعج" لها لم يحصل على أغلبية الأصوات، بل على أكثرية رجحت كفته على هويو إيه بفارق لم يتجاوز 900 ألف صوت، ونال نحو 40 في المئة من أصوات المقترعين مقابل 33 في المئة لمنافسه الذي حل ثانيا. وحصل المرشح الثالث الأقرب إلى بكين على 36 في المئة.
العالم لا يتحمل بالفعل حروبا إضافية، في الوقت الذي لم يظهر ضوء بعد في نفق حرب أوكرانيا، ولم يتبين إلى أي مدى يمكن أن تتوسع الحرب في غزة
يعني هذا أن أغلبية الناخبين الذين اقترعوا يفضلون سياسة مرنة تجاه بكين، ولا يرغبون في مواجهة ضدها، بل يريد بعضهم المزيد من الانفتاح عليها. ولو أن الحزب القومي وحزب الشعب تمكنا من الاتفاق على مرشح واحد، لاختلف الوضع الآن. وإذا حسبتها الصين بهذه الطريقة ربما تنظر إلى الوضع المترتب على الانتخابات بوصفه مرحلة لها ما بعدها، على نحو قد يقلل قلقها ويشجعها على مواصلة سياسة التريث والنفس الطويل. وسيكون هذا خيرا للعالم في لحظة بلغت فيها شرور الحروب والنزاعات أعلى مستوى في العقود الثمانية الأخيرة.
العالم لا يتحمل بالفعل حروبا إضافية، في الوقت الذي لم يظهر ضوء بعد في نفق حرب أوكرانيا التي ستدخل بعد أيام عامها الثالث، ولم يتبين إلى أي مدى يمكن أن تتوسع الحرب في غزة، فيما تشتد معاناة الشعوب بدرجات متفاوتة في المناطق التي تدور فيها الحربان، ويزداد نزيف الاقتصاد العالمي الذي لا يجد فرصة للتعافي منذ نحو أربع سنوات حين ضربته جائحة كورونا.
وهذا فضلا عن صراعات داخلية مشتعلة في بلدان أخرى، وأزمات إقليمية تنفس العالم الصعداء عندما انتهت حرب ترتبت على إحداها بسرعة في سبتمبر الماضي، عبر عملية خاطفة شنتها أذربيجان لحسم الصراع على إقليم ناغورنو كاراباخ ضد أرمينيا التي آثرت السلامة وقبلت الأمر الواقع. ولكن ما زال شبح حرب أخرى يخيم في سماء أميركا الجنوبية منذ أن حشدت فنزويلا قواتها على الحدود مع جويانا حليفة الولايات المتحدة في ديسمبر/كانون الأول الماضي, مع تصاعد الصراع على منطقة إيسيكويو الغنية بالنفط.
ولهذا فكلما أمكن تجنب نشوب حرب إضافية في هذه الفترة التي يسودها التوتر وعدم اليقين، كان هذا خيرا للعالم الذي تتوق شعوبه إلى السلام.