"موطن الآباء": مذكرات رئيس الكنيست من أصول يمنيّةhttps://www.majalla.com/node/309156/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%85%D9%88%D8%B7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A2%D8%A8%D8%A7%D8%A1-%D9%85%D8%B0%D9%83%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%B1%D8%A6%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%86%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%85%D9%86-%D8%A3%D8%B5%D9%88%D9%84-%D9%8A%D9%85%D9%86%D9%8A%D9%91%D8%A9
تعطي مذكّرات إسرائيل بن يشعياهو الشَّرْعَبيّ (1911 – 1979) رئيس الكنيست الإسرائيلي الأسبق انطباعا عاما عن نمط تفكير بعض اليهود الشرقيين الذين هاجروا إلى فلسطين واستوطنوا فيها سواء قبل نشوء الدولة العبرية أو بعدها.
فهذا اليهودي الذي نشأ في اليمن مع أبويه، وجد نفسه في حال تباه وافتخار بأنه صار يسكن "موطن الآباء"، حسب ما تلقن من الأساطير والحكايات الدينية، وهي أدبيات ما زالت مكرّسة في الخطاب الإسرائيلي الرّهن وتحدّد وجهته السياسية ومساراته السلوكية.
يندرج الكتاب الذي صُدر أخيرا عن "دار مواعيد" اليمنية بعنوان "موطن الآباء" وبترجمة عبد السلام محمد عبده المخلافي، ضمن منطلق "اعرف عدوّك"، أو معرفة كيف يفكّر الآخر، وهو ما وجدناه في سلسلة كتب صدرت في ستينات القرن الماضي في مصر وسواها.
يبدأ الكتاب بمقدّمة للمترجم يتحدّث فيها عن علاقة اليهودية بتاريخ اليمن من خلال الكثير من المصادر والمراجع وصولا إلى العصر الحديث. فيشير إلى أنّ يهود اليمن يتمتعون "بتقاليد دينيّة فريدة تميّزهم عن اليهود الأشكناز واليهود السّفارديم والمجموعات اليهوديّة الأخرى، وقد وصفوا بأنهم "أكثر اليهود يهوديّة"، وأنهم "حافظوا على اللغة العبريّة بأفضل طريقة ممكنة". ومع "أنهم يصنّفون على أنهم يهود سفارديم، أي يهود عاشوا تحت الحكم الإسلامي". فإنّه من الأدقّ، حسب المترجم، الإشارة إلى "اليهود اليمنيّين باسم المزراحيم، أي اليهود القادمين من الشّرق الأوسط".
فسّر بعض اليهود اليمنيين، كعادتهم، هذه التغييرات والتطورات الجديدة في سهولة الوصول إلى القدس على أنها علامات سماويّة
يذكر المترجم بعض المآسي التي تعرّض لها يهود اليمن، فيستذكر مرسوم ملك اليمن عبد النّبي بن عليّ الرّعينيّ الحميريّ الصادر عام 1165 والذي "استهدفهم بإجراءات شبيهة بتلك التي استهدفهم بها والده من قبله بالتحويل القسريّ إلى دين الإسلام. وبتأثير ذلك المرسوم أرسل موسى بن ميمون إلى يهود اليمن رسالته الشهيرة التي تضمّنت كلمات تشجيع ودعم لهم في أزماتهم وإجابات عن أسئلة أرسلوها إليه بشأن اليهوديّ اليمني الذي ظهر في العام 1172م مدعيا أنه المسيح والمخلّص لليهود. وذلك قبل غزو الأيوبيين لليمن في عام 1174م والذين ألغوا مرسوم ابن مهدي الرّعينيّ.
وفي عام 1618 أصدر الوالي العثمانيّ على اليمن مرسوما يستهدف به يهود جنوب اليمن". ويتطرّق المترجم إلى حادثة نفي الإمام المهدي أحمد بن الحسن (1681) لهم إلى منطقة مَوْزَع غرب جنوب اليمن، لكنه لا يذكر من أي مصادر استقى المعلومات التي تقول إنّ الحاخام اليهودي والمتصوّف الشهير سالم الشبزي كان من بين المنفيين إلى موْزَع، فمن المعروف أنّه كان يسكن مدينة تعز، بل وقام، حين لجأوا إليه، بالتوسّط لدى الإمام المهدي ليرجعوا إلى مساكنهم في صنعاء.
قبل الهجرة وبعدها
يشير المترجم إلى أنّه في القرن الثالث عشر الميلاديّ هاجرت مجموعات صغيرة من يهود اليمن إلى الأراضي الفلسطينيّة "وفي العام 1869 ازدادت فرص السّفر مع افتتاح قناة السّويس، الذي أدّى إلى تقليل وقت السفر من اليمن إلى سوريا العثمانيّة، ولذلك فقد فسّر بعض اليهود اليمنيين، كعادتهم، هذه التغييرات والتطورات الجديدة في سهولة الوصول إلى القدس على أنها علامات سماويّة على اقتراب ساعة الفِداء".
وكانت هناك هجرة صغيرة في العام 1877 "لكنّ موجات الهجرة الموثّقة بدأت في القرن التّاسع عشر 1881-1882، إذ هاجر حوالي 300 يهوديّ استقرّ معظمهم في مدينتي القدس ويافا، وكانت هجرتهم لأسباب مختلفة منها ما فرضته عليهم الدولة العثمانية التي حكمت اليمن آنذاك من واجبات لتنظيف المراحيض وطحن الدّقيق لصالح الحكومة مجّانا، وللوضع الاقتصادي الصّعب في صنعاء بسبب الجفاف الشّديد".
عشيّة عام 1948 كان يهود اليمن يشكّلون حوالي 40% من جميع أفراد المجتمعات اليهودية في الأراضي الفلسطينية
وحسب مصادر المترجم، وأغلبها كما يبدو عبرية، وصلت مجموعات إضافيّة بين الأعوام 1905-1907 "معظمها من شمال اليمن، وكان لهذه المجموعات دور كبير في عملية بناء مدينة تل أبيب. وثمّ هجرة أكثر من 1500آخرين بين الأعوام 1910-1919، انخرط معظم أفرادها في الأعمال الزراعية".
ووفقا للتقديرات فإنّه في العام 1939 "كان يعيش في الأراضي الفلسطينيّة حوالي 28 ألف مهاجر يمنيّ وعشيّة عام 1948 كان يهود اليمن يشكّلون حوالي 40% من جميع أفراد المجتمعات اليهودية في الأراضي الفلسطينية".
ومن أهم الملاحظات التي يوردها المترجم أنه "بعد الاشتباكات الدّامية بين العرب واليهود في الأراضي الفلسطينيّة أقرّ إمام اليمن يحيى حميد الدّين مرسوما يحذّر فيه يهود اليمن من أنّهم سيفقدون عقاراتهم، مستثنيا الأموال المنقولة فيها، لصالح حكومة الإمام إذا قرّروا الهجرة إلى الأراضي الفلسطينيّة، وشمل المرسوم أولئك الذين هاجروا في ظلّ الحكم التركيّ لليمن، ونتيجة لهذا المرسوم مُنع يهود اليمن من استخدام ميناء الحديدة للخروج من اليمن، واتّجهوا نحو ميناء عَدَن"، التي كانت تحت الحكم البريطاني. مع هذا لا يشير المترجم إلى المزايا التي حظي بها اليهود أثناء حكم الإمام يحيى، وبالتالي إلى أي مدى كان موقفه من هجرتهم متطابقا مع ما قيل عن هذه العلاقة.
وفي تلخيصه لتاريخ يهود اليمن يقول إسرائيل الشرعبي إنّ "مكانة اليهود كانت محترمة لدرجة أنّه ظهر منهم ملوك، أو ملوك اعتنقوا اليهوديّة". ويرى أن يهود اليمن انغلقوا على أنفسهم مع بزوغ نجم نبيّ الإسلام في البلاد العربيّة، وتحصّنوا داخل أسوار الحياة اليهوديّة "وكلما ازدادت تقوى اليهود في وطنهم الدّينيّ المغلق على أنفسهم، ازدادت عداوة المسلمين، أسياد الأرض، لهم، وتزايدت غربتهم كغرباء في أرض أجنبيّة أكثر فأكثر".
ويبدو في الكثير من أقوال الشرعبي أنه يبرر رحيل اليهود عن اليمن كإشاراته إلى إذلالهم وفرض المراسيم القاسية عليهم إلى جانب أعمال التميّيز مثل عدم السّماح لهم ببناء المعابد اليهوديّة "وإذا سُمِحَ لهم ببناء الكنيس فقد كان ممنوعا عليهم أن يكون سقفه أعلى بكثير من ارتفاع الإنسان العادي، وكان لا بدّ أيضا من بناء مساكنهم على ارتفاع منخفض، ومنعوا من لبس الملابس البيضاء، أو ركوب الخيل أو الحمار، وإذا مشى اليهوديّ أمام مُسلم أو بجواره كان يجب عليه أن يتحرّك إلى يساره". وكان "لمس اليهوديّ لملابس المسلم أو جسده عن طريق الخطأ بمثابة تدنيس وعليه أن يتحمّل تكاليف التّطهير". و"لم يكن اليهوديّ مؤهّلا لتُسْمَع شهادته، كما تمّ تكليفهم بأعمال وضيعة، مثل إزالة الجِيَف من الشّوارع وما شابه ذلك".
وفي هذه الإشارات بدا أن الشرعبي يعمّم ما حدث لليهود في مرحلة من التاريخ اليمني على كل المراحل الأخرى. ولهذا يرى أن رحيل يهود اليمن كان نعمة لمزاياهم الاجتماعية والسلوكية. وسنجد في رأي ليوسف هاليفي الذي له الكثير من المؤلفات عن يهود اليمن إشارات إلى معاناة يهود اليمن بعد هجرتهم. فينقل المترجم ما قاله عن بعض جوانب التمييز ومن ذلك ما هو معتاد "بين الأوروبيّين الشرقيّين في إعادة كتابة التاريخ والتقليل من شأن دور اليهود اليمنيّين"، فكتب التاريخ وأدلّة التّعليم للمدارس بكافّة مراحلها "لا تؤكّد إلا على تفرّد الهجرة من أوروبا الشرقيّة ومساهمتها في بناء البلاد"، وأنه "قبل وبعد الحرب العالمية الأولى نظّم الناشطون اليمنيّون أنفسهم وطالبوا المؤسسات بتخصيص أرض لهم ليستقرّوا مثل إخوانهم من أوروبا الشرقيّة، ولم تجد مطالباتهم تلك آذانا صاغية، لأنّ اليمنيّين كانوا مطلوبين ومرغوبين كعمّال وليس كمستوطنين، ولذلك زعمت المؤسسات الرسميّة دائما أنّ المهاجرين اليمنيّين سيعملون لدى المزارعين الأشكناز. وبعد صراع طويل وشاق تمّ تخصيص ستّين دونما لستّين عائلة، بواقع دونَم واحد لكلّ عائلة... فيما حصلت كلّ عائلة من الأشكناز على عشرة دونمات".
ويشير المترجم في مقدمته الطويلة إلى حادثة اختطاف أطفال يهود اليمن من المستشفيات في إسرائيل "ونقلهم إلى أزواج من أصول أشكنازيّة، حيث ظلّت تلك المأساة محفورة في وجدان يهود اليمن بموافقة رسميّة".
ويخلص عبدالسلام المخلافي إلى أن "موقف المسلمين اليمنيّين تجاه اليهود كان لطيفا غالبا، فمن ناحية كانوا محميّين من قبل الدولة، ومن ناحية أخرى حمتهم القبائل وفقا لأعرافها، وقد كان عليهم في كل الأحوال أن يدفعوا الجزية وفقا للمفهوم الإسلاميّ، إلا أنهم معفيون من دفع الزّكاة التي كان يجب على المسلمين دفعها بمجرد وصول ثرواتهم إلى حدّ معيّن".
شراء كلّ شيء
استطاع إسرائيل بن يشعياهو الشَّرعبيّ بعد ستّ سنوات من مغادرته اليمن أن يرأس الجالية اليمنيّة، وقام بعدها "بالتعاون مع مثقّفين آخرين من المجتمع اليمنيّ بتحرير ونشر عدد من المقالات عن تاريخ اليهود اليمنيّين وثقافتهم وتقاليدهم وعن هجرتهم إلى إسرائيل". وله عشرات الكتب ومئات المقالات. ويرى بعض النّقاد "أنّ أفكار الشرعبيّ السياسيّة مثيرة للإعجاب فقد رفض باستمرار فكرة أن يكون الكيان المحتلّ دولة دينيّة، وأنّ حالة الدولة تتحدّد بالإرادة العامّة للمواطنين فقط عبر الدّستور والقوانين". وترى ابنته نِعْمَة "أنّ والدها كان الزعيم والأب الروحيّ للمهاجرين اليمنيّين وأنه بذل كل ما في وسعه لمساعدتهم على استيعابهم في الأراضي المحتلّة، ومن ذلك قيادته لعملية "بساط الريح" التي رحّل من خلالها نحو 49 ألف يهوديّ من يهود اليمن.
ويلحظ المترجم أن الشرعبي "أظهر قدرا من الإنصاف عند تناوله لواقع المجتمعات اليهوديّة في اليمن، وعزا كثيرا من معاناتها إلى ظروف ناشئة عن اليهود أنفسهم".
وقد رأس إسرائيل بن يشعياهو الشَّرعبيّ الكنيست في دورتيه السابعة والثامنة، وعيّن في عدة مناصب وزارية. وشغل منصب عضو الكنيست منذ نهاية الدّورة الأولى للكنيست 1951 حتّى عام 1977. كما شغل منصب الأمين العام لحزب العمل خلال الفترة من 1971-1972. وكان الوحيد من قادة الحركة العمالية (الهستدروت) الذي لم يولد في أوروبا الشرقية بل في اليمن.
في مذكراته هذه، يذكر الشرعبي مولده في السَدّة، بالقرب من وادي بنا حيث كان "نِصفُ سكّان البلدة من العَرَب وجميعهم مُزارِعُون والنِّصْف الآخر من اليهود، ومعظمهُم من النَسّاجين والبعض من التُجّار". أبوه من عائلة الشَّرْعَبِيّ الذين كانوا نسّاجِيْنَ، وأُمّه من عائلة الحَدَّاد وكانوا تُجّارا. وقد قرّر والده مغادرة بَلْدَة السَّدَّة والانتقال إلى العيش في مدينة صَنْعاء، ليدرُس ابنه إسرائيل عند معلّمي التَّوراة المَشهورين هناك.
يكشف الشرعبي الكثير عن الجوانب التي تبدو مهمّة إذا ما نُظر إليها ضمن سياق الأحداث المصاحبة أو التالية لها، ومن ذلك أنّه حين بلغ السّابعة عشرة من عمره رأى رجلين من أصل أشكناري جاءا إلى اليمن من فيّينا للبحث عن المخطوطات القديمة وشرائها. وكانا أبيضان يسيران في شوارع صَنعاء "تتوهّج بشرتهما بالحُمرَة، مندفعان، يرتديان ملابس أوروبيّة، يتبعهما جميع أطفال الحيّ، وليس الأطفال فقط، بل الكبار أيضا، والنِّساء يطللنَ من نوافذ المنازل لرؤية معجزة الخَلْق هذه، كما لو أنّ مخلوقين من القَمَر ظهرا فجأة هنا".
يبدو في الكثير من أقوال الشرعبي أنه يبرر رحيل اليهود عن اليمن كإشاراته إلى إذلالهم وفرض المراسيم القاسية عليهم
يوضح إسرائيل أنّ هؤلاء الزوار "كانوا يشترون كلّ شيء يصل إلى متناول أيديهم، بغرض تشجيع البحث. وقد حصلوا بالفعل على كمّية وافرة من جميع أنواع المخطوطات القديمة والمطبوعات، وكذلك أخذوا معهم أشياء ثمينة جدا من اليمن".
وإذ كان يفكّر بالهجرة فقد كتب لهم رسالة يتوسل إليهم فيها أن يأخذوه معهم "إلى أرض إسرائيل". ولم يتلق أيّ ردّ، لكنه جمع بعض المال من تجارة الكتب التي اشتراها من أهل القُرى وقام ببيعها لهؤلاء الأشكناز ببعض الرِّبح لتساعده على مغادرة اليمن حيث شجعته أمّه على ذلك خلافا لكل العائلة.
جدران صلبة
يتحدّث الشرعبي في المذكرات عن أسرته وعادات مجتمعه اليهودي قبل المغادرة، عن مساكنهم وأعيادهم ومناسباتهم وطرق حياتهم من تعليم ومهن وعقائد. ويذكر ملاحظات عن بعض المناطق التي قد تثير شغف القارئ اليمني بتفاصيلها، مشيرا إلى التمييز الذي لاقاه مع عائلته من المجتمع اليهودي الصنعانيّ بوصفه من يهود القُرى "مشيتي وملابسي ولهجتي ولحن قراءتي وصلاتي كانت مثل الصّنعانيّ في كلّ شيء. لكنّ أخي ووالدي لم يكونا كذلك، وخاصّة والدي، لقد كانت لهجته وبعض سلوكياته تشير إلى أنه من يهود البلاد".
ولا ينسى ذكر الأمراض والأوبئة التي عانى منها المجتمع عامة كالجدري فيقول إنّ المرض أصاب كلّ بيت وكلّ أسرة، وكان الأطفال أكثر إصابة بالمرض من البالغين "كلّ من أصابه المرض مات باستثناء القلّة المحظوظة. كانت تلك أيّام الرّعب الرّهيب في الحيّ اليهوديّ بصنعاء. ولم أشاهد ما كان يحدث في أحياء المسلمين لأنّهم أيضا مثل اليهود، كانوا يمنعون أنفسهم من السّير في الشّارع خوفا من المرض والموت. كنت أذهب إلى سوق اليهود لأبحث عن شيء أشتريه لحاجات الطّعام في المنزل وأعود دون أن أجد شيئا، وكأنّ الحياة توقّفت عن الاستمرار، هناك فقط موتى". ويشرح في هذه المذكرات الكثير من الجوانب الاجتماعية في علاقة اليهود بالمسلمين والفرق بين عادات يهود مدينة صنعاء ويهود القرى.
ويكشف عن كثير من جوانب التخلف في اليمن سواء عند المسلمين أو اليهود الذين "لم يكونوا فقط منعزلين ومنقطعين عن بقيّة العالم كبقيّة أهل اليمن، بل عزلوا أنفسهم أيضا عن المسلمين، ولم يكن لهم أيّ اتّصال ثقافيّ أو اجتماعيّ إلا الاتصال الذي لا بدّ منه لإنجاز المبادلات التجاريّة أو أمور العمل أو التفاوض والبيع. بالإضافة إلى ذلك، كانت العلاقات بالطبع مغلقة في إطار تقاليد وتراث الديانة اليهوديّة. وهكذا أقاموا جدارا أمامهم، وعلى مرّ الأجيال أصبحت الجدران صلبة وجامدة للغاية".
في ظل هذه العزلة، كما يقول "اختلطت الخرافات بالمعتقدات الدينية والتقاليد أكثر فأكثر، إذ من المعروف أنّ مثل هذه المعتقدات كانت مختلطة حتى في التّلمود". ويسرد بعض العادات التي اكتسبوها من التقاليد الاجتماعية والتي لا أسس عقلية لها. ويتذكّر تواصل والده مع حركة "دِردا" وانجذابه إلى أفكارها أكثر من انجذاب والده إليها. وتعرّفه لأوّل مرّة إلى اسم "راشيل" كما يطلقون عليه في اليمن، والذي اتّضح في ما بعد أنّه اختصار لاسم "روتشيلد" الذي سخّر كلّ ما لديه لليهود.
ومن أهم ما يلفت في المذكرات دراسته للأدبيات اليهودية باللغة العربية والعبرية ومنها "تفسير رمبام للمشناه"، المكتوب باللّغة العربيّة، وهو أحد التّفسيرات المفضّلة لديه.
دار الحرب
كان والد إسرائيل نسّاجا بارعا، لهذا دعاه إمام اليمن يحيى إلى العمل لديه لنسج بعض الأعمال للعائلة الحاكمة وللاحتياجات العامة. وعمل إسرائيل مع أخيه حاييم إلى جوار أبيهما. ولقد تذكّر حكاية له من ذلك الزمن مع الإمام يحيى وكان عمره حوالي خمسة عشر عاما: "كنت جالسا أنسج على النّول الخاص بي، وجدائل شعري تتمايل ذهابا وإيابا. وهنا ظهر الإمام مع حاشيته ووقف مع الجميع بالقرب مني. لسبب ما لفتت جدائلي انتباهه. لم أرفع عيني لأنظر إليه، إمّا بسبب الخجل، أو بسبب الخوف من كونه مَلِكا، أو لأنّنا في ذلك الوقت كنّا لا نزال نعمل للحصول على راتب جديد ولم أكن أريده أن يعتقد أنّنا كنّا متساهلين في عملنا. واصلت العمل بكلّ حماسة وكانت رائحة العرق تفوح منه. لكنّه بدأ يطرح عليّ الأسئلة، بشيء من الجدّية وبأسلوب مازح بعض الشيء. فسألني: ما هذا القماش؟ وما اسم ذلك الجهاز؟ أو أداة العمل وما إلى ذلك. أعطيته إجابة عن كلّ سؤال دون أن أرفع نظري إليه ودون أن أوقف عملي. ثمّ أشار إلى جدائل شعري فقال: ما هذا؟ قلت له: علامة. وفي اليمن يطلق على الشّعر المستعار اسم العلامات. ثمّ سألني ما هي العلامة باللغة العربية؟ فترجمت له: فسألني: ما هذه العلامة؟ فقلت مرّة أخرى دون أن أنظر إليه: هذه علامة للتمييز بين اليهودي والمسلم. فقال: ولماذا يجب أن نفرّق بينهما؟ قلت: حتّى يعلم الجميع أنّ اليهوديّ يهوديّ والمسلم مسلم. فسأل: أوليس عليك أن تكون مسلما أصلا؟ فقلت: ما الفائدة التي سأستفيدها من هذا؟ قال: تدخل الجنّة وتلتقي فيها بنات الحور. وكلّ الأشياء الجميلة والرّائعة الأخرى.
يتحدّث الشرعبي عن أسرته وعادات مجتمعه اليهودي قبل المغادرة، عن مساكنهم وأعيادهم ومناسباتهم وطرق حياتهم من تعليم ومهن وعقائد
"فأجبته دون أن يرفّ لي جَفن: سيّدي: لم يعد أحد من هناك بعدُ ليخبرنا من دخل الجنّة ومن دخل الجحيم. اضطربت حاشية الإمام بأكملها وأرادت تمزيقي مثل السّمكة، لكنّ الإمام انفجر ضاحكا، وشتّت الحاشية ووصفني بكلمة مهينة جرت العادة أن أقولها لشخص حاد الطّباع. ولم يمض وقت طويل حتى جاء عبد الله العَمريّ نائب الإمام لزيارة الورشة، وأثناء حديثه مع والدي قال له: أعتقد أنّ ابنك لن يبقى هنا، ولن يكون بعيدا ذلك اليوم الذي سيذهب فيه إلى دار الحَرْب؛ دار الحرب، هكذا كانت تسمّى أرض إسرائيل في تلك الأيّام، والظّاهر أنّه تنبأ ولم يكن يعلم ما تنبأ به".
ونعرف من خلال التفاصيل التي يذكرها الشرعبي أنّه غادر اليمن عام 1929 وهو في الثامنة عشرة من عمره بعد أن مكث شهرين في عدن، حيث كان أحيانا يحصل على أجر من كتابة رسائل اليهود إلى أقاربهم في إسرائيل، وهي "مليئة بالتضرّعات والطّلبات، لمساعدتهم في وجودهم في عدن ونفقات هجرتهم إلى إسرائيل" فيما تمضي بعض الأيّام وهو لا يجد ما يسدّ به رمقه.
ولا ينسى إسرائيل، وقد حمل هذا اللقب الشهير في اليمن (الشرعبي)، حين صار بعيدا أن يتذكّر طموحاته الأولى: "بالطّبع لديّ طموحات منذ طفولتي، وأغلبها من نوع أحلام الطّفولة. على سبيل المثال: حلمت أنني سأجد كنزا وأبني عوالم كما أتمنّى، سأجمع جيشا وأشتري أسلحة وأقاتل حكومة اليمن وأجعل اليمن مملكتي، الملكيّة اليهوديّة. حتّى إنّني كنت أرسم في مخيّلتي أنواع الأسلحة التي سأهزم بها الإمام".
ويضيف: "عندما أتذكّر الآن كلّ الأحلام التي كانت لديّ في ذلك الوقت، أضحك. لكنّني أعلم أنّ هذه هي جذور الطّموحات والرّغبات، القاتمة والخياليّة. ومن المشكوك فيه أن أكون متحرّرا منها حتّى الآن، على الرّغم من أنّني قد وصلت بالفعل إلى سنّ تسوية العقل، إذا جاز التّعبير".