تفتحت مواهب فواز الأدبية والصحافية في أوج النهضة الثقافية العربية في الشام ومصر، ففي الربع الأخير من القرن التاسع عشر، انتعشت الآمال بعصر جديد، بعد ثورة التنظيمات المجيدية، نسبة للسلطان عبد المجيد (1839 – 1861)، وتوسّع التعليم، ودخول مظاهر الحداثة إلى المجتمع العثماني. وانتشرت على نطاق واسع دعوات لتعليم النساء، تبنّتها الإرساليات التبشيرية البروتستانتية على وجه الخصوص، وهي دعوات تدور في فلك الأفكار الفيكتورية، نسبة للملكة فيكتوريا (1819- 1901)، من تمجيد لقيم العائلة، والعمل لهدف وحيد هو خدمة الزوج والأولاد على أكمل وجه، مع تأكيد قوامة الرجل.
وسرعان اشتعلت على صفحات جرائد ومجلات بيروت والقاهرة سجالات حول أفكار المساواة، والغاية من تعليم النساء، فانبرى نفرٌ من مثقفي ذلك العصر يكتبون عن الفروقات البيولوجية، والإمكانات العقلية التي يتفوق فيها الرجال على النساء. وكانت زينب فواز نجمة من نجوم تلك السجالات، حيث كانت تكتب في صحف ومجلات بيروت والقاهرة، وتفند الأفكار الذكورية فكرة فكرة، وتقوم بنقضها على طريق المناطقة، مستندة في كتاباتها إلى مخزون تراثي إسلامي كبير، مُطَعَّم بمعرفة تاريخية عميقة، وقلم جزل ولغة سهلة مترابطة الجمل والأفكار.
مهمة صعبة
كان واضحا لزينب فواز أن هذه السجالات لا تكفي وحدها للتبشير بقيم المساواة في المجتمع، والدفاع عن حقوق النساء المهضومة ما لم تستند إلى منجز فكري، رأت أن أفضل تعبيراته هو كتابة موسوعة لسير النساء القديمات والمعاصرات تثبت من خلالها خطل الآراء التي تنتقص من المرأة. وفي ذلك تقول: "أفرد لنصف العالم الإنساني (تقصد النساء) بابا باللغة العربية جمعت فيه من اشتهرن بالفضائل، وتنزهن عن الرذائل، مع أنه نبغ منهن جملة سيدات، لهن المؤلفات التي حاكين بها أعاظم العلماء، وعارضن فحول الشعراء، فلحقتني الحمية والغيرة النوعية على تأليف سفْرٍ يسفر عن مُحَيَّا فصائل ذوات الفضائل من الآنسات والعقائل، وجمع شتات تراجمهن بقدر ما يصل إليه الإمكان، وإيراد أخبارهن من كل زمان ومكان".
وبعد أن تحدّثت عن صعوبة المهمة التي انتدبت نفسها إليها، بسبب نقابها الشرعي، قالت إنها استعانت علىتأليف موسوعتها بكتب التاريخ العام العربية، وما تيسر لها من المجلاتالعلمية. وقرَّ رأيها على أن تكون بصيغة معجمية على حروف الهجاء، كما هو الحال مع هذا النوع من التآليف، وعنونت موسوعتها بعنوان مستقى من التراث العربي "الدر المنثور في طبقات ربات الخدور"، وقالت إنها كتبتها لخدمة بنات جنسها، مراعية صياغة فصولها بطريقة مختصرة، "مُتجنِّبة كل ما يؤدي إلى الملل"، خالية من ذكر "الأسانيد والعنعنة، والأمكنةوالأزمنة". وألحقت بالمقدمة المصادر التي اعتمدتها، وبلغ عددها 39 مصدرا رئيسا من مصادر التأريخ العربي والإسلامي، وعددا غير محدّد من المجلات والجرائد، وبعض المصادر الخاصة، فبلغ عدد النساء اللواتي انتظن في أبواب الموسوعة أكثر من 450 امرأة من مختلف العصور والأمكنة، من آمنة بنت وهب أم الرسول الأكرم (ص)، إلى "ليدي رسل" أبنة وزير مالية بريطانيا، وما بينهما من أديبات، وطبيبات، وشاعرات، ومربيات، ومقاتلات، وملكات، وقديسات.
تتفاوت الترجمات الواردة في موسوعة فواز من حيث الحجم، فبعضها لا يتجاوز الأسطر الخمسة، والبعض الآخر يمتدّ على أكثر من عشر صفحات، ويبدو أن سبب تخصيصها لبعض النساء بصفحات كثيرة، هو لفت النظر إليهن، مثل الشاعرة الشهيرة عائشة الباعونية، التي عاشت في العصر المملوكي، واشتهرت بين أدباء عصرها، أو المناضلة النسوية المعاصرة لها مريم مكاريوس (1860- 1887) مؤسسة جمعية "باكورة سوريا"، أولى الجمعيات النسائية في العالم العربي في العام 1879، حيث أفردت لها أكثر من 12 صفحة، عرَّفت بمنجزها، ونشرت إحدى رسائلها حول رحلتها إلى القاهرة، وهو أول نص رحلة نسائي باللغة العربية، وكذلك مقالة فندت فيها آراء الدكتور شبلي شميل (1850 - 1917) حول معارضته لفكرة المساواة بين النساء والرجال. ومن الترجمات اللافتة كذلك ترجمتها للسيدة مريم نحاس نوفل (1856- 1888)، وهي مثقفة بيروتية شرعت في عام 1873 بتأليف كتاب تراجم لبعض نساء عصرها بعنوان "معرض الحسناء في تراجم النساء"، وهو أول كتاب بالعربية في بابه، ولكن القدر لم يسعفها لكي تكمله، فتوقفت في جزئه الأول المخصص لحرم خديوي مصر وبعض السيدات الأخريات.
سفر الكتاب دون كاتبته
وبسبب شهرتها في المنافحة عن حقوق النساء، وجهت رئيسة مؤتمر النساء العالمي في شيكاغو عام 1893 بيرثا هونوريه بالمر (1849 –1918) بطاقة دعوة لزينب فواز، لإلقاء كلمة في المؤتمر. وقد فوجئت بالمر حين اعتذرت فواز عن الحضور شاكرة دعوتها، مبرّرة ذلك بموانع شرعية إسلامية تتعلق بضرورة وجود محرم معها. لم تفهم السيدة بالمر عذر فواز، التي كانت تتبنى أفكارا نسوية غاية الليبرالية، فطلبت منها شرحا لذلك العذر. وكجواب على تساؤلات بالمر، أرسلت زينب فواز رسالة تضمنت شرحا مبسطا لأحكام النساء الواردة في الفقه الإسلامي، ولكنها مع ذلك شجعت بنات جنسها، من السوريات القادرات على السفر إلى شيكاغو بأن لا يتردّدن بالذهاب والمشاركة الفاعلة.