أعيدوا الطب إلى دائرة العلم

يجب أن يبقى محفوظا في عالمه الخاص

أعيدوا الطب إلى دائرة العلم

استثمرت السعودية الحديثة منذ بداياتها في الإنسان السعودي المتعلم، فابتعث للدراسة في بريطانيا منذ ثلاثينات القرن العشرين أعدادا قليلة في البداية، ثم بدأت البعثات إلى الولايات المتحدة في 1952 ومن أعظم البعثات التي أتت ثمارها على نحو ظاهر أكثر من أي حقل آخر، ابتعاث الأطباء السعوديين إلى أعرق جامعات أميركا وألمانيا وبريطانيا وكندا. نحن اليوم نفاخر بالأطباء السعوديين لأنهم تفوقوا في هذا المجال تفوقا منقطع النظير وبزّوا أقرانهم، ونالوا الشهادات والتكريم في المحافل الدولية ولا يزالون كذلك إلى اللحظة. من نراهم اليوم من أطباء ناجحين هم الجيل الخامس أو السادس من المبتعثين الذين أصبحوا من كبار العلماء. هناك تاريخ طويل مشرف للطب في بلادنا وهذا التاريخ جدير بالمحافظة عليه مما قد يكدر صفوه.

الداعي لتدبيج هذه المقالة، هو رسالتان وصلتا إليّ نقلا عن طبيبين سعوديين معروفين، كتب الأول يقول إن شرب الكحول ولو لمرة واحدة، من مسبّبات عدم انتظام نبضات القلب (الرجفان الأذيني). وكتب الآخر أن بول الإبل يشفي من السرطان، وأن البحوث العلمية تؤكد هذه المعلومة.

ثمة عتب على هذين الطبيبين وغيرهما ممن يسيرون في هذا الاتجاه. مع كل التقدير للطبيبين العزيزين، ومع اعترافي بأن لا ناقة لي ولا بعير بالطب، لكنني أجزم أن ما تفضلا به غير صحيح البتة، فلم يثبت أبدا أن لبول الإبل دور في تخفيف معاناة مريض السرطان، فضلا عن كونه يشفي من المرض، اللهم إلا أن ينتفع المريض بهذا مثلما ينتفع من يبتلع حبة "البلاسيبو"، وهي قطعة سُكّر مغلفة، من باب الإيحاء، والإيحاء له دور في رفع معنويات المريض، لكنه لا يشفي من هذا المرض الخبيث.

لم يثبت أبدا أن لبول الإبل دور في تخفيف معاناة مريض السرطان، فضلا عن كونه يشفي من المرض

مثل هذا يقال عن شرب الكحول لمرة واحدة أو مرتين، هذا لا يبدو صحيحا، بل إن الأطباء في طول العالم وعرضه ما زالوا يقولون إن شرب الكحول بكميات معتدلة وبصفة مستمرة لا يمكن أن يكون ضارا، بل قد يكون نافعا من الناحية الصحية. يمكن لهذا الطبيب أن يقول إن الكحول خمر، والخمر حرام في الإسلام، وهنا يتحول الطبيب إلى واعظ وينتهي الأمر. مع أن دعوى أن جرعة واحدة في العمر يمكن أن تسبب الرجفان الأذيني، تحتاج إلى إعادة نظر للتحقق من صحتها مع غلبة ظني أنها لا تصح، لأن هذه المعلومة، لو كانت صحيحة، لوجدناها في أوراق علمية تتداولها الجامعات في شرق العالم وغربه، ولوجدناها مستفيضة في نصوص الأطباء الذين يحذّرون من شرب الخمر. يبدو لي أن هذا النفر من الأطباء ينطلقون أساسا من تديّنهم الشخصي، ولربما أن الخطاب الشعبوي أثر عليهم، ولو كان الأمر مجرد نصيحة لكان الأمر مقبولا نوعا ما، لكن المشكل أن هذه النصيحة تتسربل بثوب العلم، وتنسب إلى العلم ما لم يقله.

أطباؤنا هؤلاء في كثير من الأحيان ينطلقون من نظرية "الطب النبوي" وهي نظرية قد تطرق إليها الشك منذ فترة مبكرة من تاريخ الإسلام، فقد وجدنا واحدا من أشهر علماء الحديث النبوي، واسمه صالح بن محمد البغدادي (كانوا يقولون له صالح جزرة) ينفي فائدة الحبة السوداء "الشونيز" بعد أن جرّبها لعلاج مرض ألمّ به. وقد ناقش هذه القضية الطاهر بن عاشور، أحد أذكياء فقهاء المسلمين في كل العصور، وخلص إلى أنه لا يوجد شيء اسمه "الطب النبوي" وأن ما ورد على لسان الرسول (ص) في ما يتعلق بأمور الصحة لم يكن وحيا إلهيا، وإنما هي معلومات استفادها من أهل عصره. كان الطاهر بن عاشور يفرّق بين محمد النبي ومحمد الإنسان، وهذا هو فعلا الطريق الصحيح لفهم كثير مما ورد عنه.

نصوص الدين ليست نصوصا في الفيزياء ولا الكيمياء ولا الأحياء ولا الطب

خاتمة العتب، هي أنني أرجو لإخوتنا الأطباء أن يفصلوا بين تدينهم الخاص وبين العلم، فالطب يجب أن يبقى محفوظا في عالمه الخاص. لا عيب إطلاقا في أن تكون متدينا وأن تحترم دينك. لكن نصوص الدين ليست نصوصا في الفيزياء ولا الكيمياء ولا الأحياء ولا الطب. هي نصوص في العقيدة والإيمان، فلا تدخلها في معمعة مجهولة. أما العلم، فشيء آخر، ومن طبيعته ألا يتطور إلا بعيدا عن الوصاية الدينية. العلم شيء مادي تجريبي، بمعنى أنه سيظل يقوم على التجربة والتصحيح على طريقة العلماء. هكذا يمكن أن تحافظ على العلم والدين في وقت واحد، بأن تفض الاشتباك بينهما وتبقي كل واحد منهما في دائرته.

font change