في القرن التاسع عشر، كانت المراسلات الدولية تصف منطقتنا العربية بالشرق، أو المشرق، قبل أن تأتي فرنسا بمصطلح "الشرق الأدنى" للتعبير عن الرقعة الجغرافية الواقعة تحت حكم الدولة العثمانية. أما عبارة "الشرق الأوسط" المتعارف عليها اليوم فهي لم تولد إلا سنة 1902، وجاءت على لسان المؤرخ الأميركي ألفريد ثيار ماهان، لتقوم صحيفة "التايمز" البريطانية بالترويج لها إعلاميا. ثم جاء ونستون تشرشل، يوم كان وزيرا للمستعمرات، وجعلها رسمية في القاموس السياسي الدولي يوم أسس قسما خاصا بالمنطقة العربية باسم "قسم الشرق الأوسط". الجميع يعرف دوره التاريخي بوصفه رئيس حكومة بريطانيا في الحرب العالمية الثانية، يوم قاد بلاده في حربها ضد ألمانيا بين مايو/أيار 1940، ويوليو/تموز 1945، وحقق لها نصرها المشهود، رافعا إشارة النصر (V). عاد إلى الحكم ثانية في أكتوبر/تشرين الأول 1951 وبقي فيه حتى شهر أبريل/نيسان 1955، وهي المدة التي نال فيها جائزة نوبل للآداب.
حافظ تشرشل على مقعده النيابي لغاية عام 1964 وتوفي في 24 كانون الثاني (يناير) 1965. يختلف العرب في تقييمهم للرجل، بين من لا يغفر له دعمه المطلق للمشروع الصهيوني، ومن يعده رجل دولة من الطراز الرفيع، كانت له اليد العليا في تأسيس دولتي العراق والأردن، إضافة إلى دوره الكبير في تحرير سوريا من الاحتلال الفرنسي.
التواصل الأول مع العرب والمسلمين
وُلِد ونستون تشرشل في قصر أسرته بمقاطعة أكسفورد شير، جنوب شرقي إنكلترا سنة 1874، وترعرع في كنف الإمبراطورية البريطانية. كل مراحل تعليمه كانت استعمارية بامتياز، وأول احتكاك له بالعالم الإسلامي جاء في أكتوبر/تشرين الأول 1896، يوم كان ضابطا شابا في الجيش البريطاني، لم يتجاوز عمره اثنتين وعشرين سنة، دخل إلى الخدمة على حدود الهند الشرقية، التي أصبحت تسمى اليوم أفغانستان وباكستان. أُعجِب جدا بمدينة حيدر آباد، ولكنه كتب إلى أمه في إنكلترا بأنه لم يدخلها إلا راكبا على متن فيل لكيلا يتعرض للبصق والشتم من قبل الأهالي. أدرك تشرشل باكرا أن بريطانيا العظمى كانت مكروهة في مستعمراتها، ولكنه كان وفيا لعرشها، ويعدها حجر أساس لأي تطور ممكن في العالم ومهمتها الرئيسة "تحضير الناس وتوجيههم نحو الرقي الاجتماعي والثقافي". ولكن مفهومه للحضارة كان مشوها، يراه محصورا في تقدم مدينة لندن وحدها دون غيرها من المدن، وليس في ثقافة شعوب العالم القديم ومدنه وتاريخها. وعندما أذنت له القيادة العسكرية بالعودة إلى لندن كتب لأمه فرحا، وقال: "أتطلع بشدة لرؤية الحضارة مجددا، بعد البؤس الهمجي في هذه البلاد".