بيروت: اصطحبني الشاعر عباس بيضون إلى منزل حسين ماضي، وقد أصرّ على أن أزوره وأتعرف إليه وأحاوره. هكذا التقيته في بيته، وهو عبارة عن شقة في بناء عتيق أعيد ترميمه، فاخر كأنه يعود لتاريخ مليء بالزهو في منطقة الحمراء في العاصمة بيروت. الحيّ الصغير المتفرع من الشارع الرئيس المزروع شجرا على الجانبين تظهر أنها لا تصفرّ ولا تيبس، نظيف ومنظّم يشي بالطبقة الاجتماعية للمقيمين فيه. فكرتُ، إذاً هو فنان أريستوقراطي، وهذا ما جعلني أقلق من زيارتي هذه، وصرت أتخيّل سيناريوهات كثيرة أبدّلها كما يحلو لي عن أنه مثلا رسام ومبدع وربما مثقف أيضا وسيكون مختلفا عمن قد يقيمون هنا، ثم فكرت في سري أنها فكرة ضئيلة مني ربط الإبداع بالمعاناة، وأن المبدع لن يبدع وهو يعيش مترفا، ثم طردت الفكرة الأولى بأخرى تقول إن المعاناة لها أشكال عديدة وأسباب كثيرة ليست جميعها مادية. وربما عانى الرجل ما عاناه حتى وصل إلى هنا.
هكذا مرت أفكار كثيرة بي حتى وقفت والشاعر عباس بيضون صديق الرسّام ورفيقه في مسيرته (حتى عرفت لاحقا أنه ألّف عنه كتابا)، أمام الباب الرمادي الذي فتحه في الطابق الخامس رجل ابيضّ ما تبقى من شعر على رأسه، أسمر البشرة، ضخم الملامح. بان الباب حزينا يغلق على حياة وحيدة صامتة ويفتح بيد أخرى على الخارج حيث الحروب اليومية العديمة المعنى.
الرجل غير مرتاح لي، وأنا لم أبدأ حديثي بعد، الله يستر، قلت في سرّي. ابتسمت له، فلم يبتسم. ربما لم تعجبه أبعادي الجسدية، فنساء لوحاته مكتنزات، لهنّ أفخاذ طرية وبطون مترهلة وأرداف ممتلئة، البيت كان مليئا برسوماتهن، منهن مرسوم على أوراق كرتونية، ومنهن على قماش مؤطر، ومنهن منحوتات حديد، وأخرى صغيرة فخارية موضوعة في خزانة زجاجية على يسار المدخل.