أصيب نابليون بونابارت بالدهشة وهو يشاهد الأهرامات لأول مرة عندما احتل مصر عام 1798، وقال من فوقها لجنوده وهو يتأمل القاهرة من تحته: "أيها الجند، من أعلى الأهرامات... أربعون قرنا تنظر إلينا، فإلى الأمام أيها الجند".
لو أن نابليون يصعد مجددا فوق الأهرامات سيقول لشعب القاهرة من تحته: يا مصر... أربعون "أزمة" تنظر إلينا.
لم تشهد الخريطة المصرية حجم الأخطار التي تحيط بها كما يحدث اليوم، حيث تقترب الأزمات من كل حدودها؛ ففي الشمال الشرقي لمصر لا صوت يعلو فوق صوت الطائرات الإسرائيلية التي تقصف سكان غزة ليل نهار لتقتل أكثر من 30 ألف إنسان! مما دفع قرابة مليون فلسطيني للتكدس على الحدود المصرية، حيث ترغب إسرائيل في تهجيرهم لقطاع سيناء والإقامة هناك إلى الأبد، فسيناء التي ترغب إسرائيل في تهجير الفلسطينيين إليها تكتظ بالجماعات المسلحة التي يواجهها الجيش المصري منذ سنوات، وقتلت من جنوده المئات.
وفي ذات الشمال المصري لكن على امتداد الساحل مع البحر الأبيض المتوسط تنتشر البحرية المصرية لمراقبة التوتر البحري مع تركيا منذ سنوات في ملف التنقيب عن الغاز، حيث لم يتم ترسيم الحدود في البحر بين مصر وتركيا! وتنوي تركيا التنقيب عن الغاز في هذه المياه التي تعتبرها مصر مياها إقليمية لها وترفض أن تقوم تركيا بهذه الخطوة وتعتبرها تهديدا لأمنها القومي.
لم تشهد الخريطة المصرية حجم الأخطار التي تحيط بها كما يحدث اليوم، حيث تقترب الأزمات من كل حدودها، مطبقة الحصار عليها.
ولو أن المرء سينظر "غربا" وراء الحدود هذه المرة من فوق الأهرام سيجد أن الأوضاع ليست أفضل من الشمال؛ فالجيش المصري ينتشر على طول الحدود الليبية المصرية لمواجهة الأخطار التي ولدتها الأزمة الليبية، إذ إن ليبيا اليوم مقسومة بين شرق وغرب، شرق يديره جيش يقوده خليفة حفتر، وغرب تديره جماعات سياسية وإسلامية كما توجد قوات تركية على الأراضي الليبية، وهذا ما تعتبره القاهرة تهديدا مباشرا لها، حيث خرج الرئيس السيسي عام 2020 وقال لليبيين إن منطقة سرت خط أحمر، ولن يسمح الجيش المصري للقوات المدعومة من تركيا بأن تقترب من مدينة سرت التي تقع في منتصف الساحل الليبي.
ولو أن المرء أشاح وجهه هذه المرة لجنوب البلاد سيجد العشرات من الأزمات، ففي السودان تجري حرب طاحنة بين الجيش السوداني بقيادة عبدالفتاح البرهان، و"قوات الدعم السريع" التي يقودها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وتعم البلاد الفوضى، مما يعزز من فرص تهريب السلاح لمصر، وسيناء بالتحديد، من قبل جماعات التهريب المتمرسة، بالإضافة إلى الأضرار الاقتصادية جراء الحرب؛ فمصر تعتمد على السودان في كثير من احتياجاتها الغذائية في استيراد الحيوانات والأغذية، وتصدر مئات المصانع المصرية الصغيرة منتجاتها للسوق السودانية مما ينذر بتعطل قطاع كبير منها.
ولو نظرنا لما خلف السودان سنجد أن إثيوبيا هي الأخرى تهدد مصر من خلال مشروع سد النهضة الذي سيجفف وصول مياه النيل لينذر البلاد بالعطش الذي لم تعرفه عبر تاريخها؛ فنقصان منسوب مياه النيل يشي بكارثة غذائية وزراعية، حيث تعتمد كل الزراعة المصرية على هذه المياه.
الأخطار التي تحيط بمصر من كل حدودها تجاوزت الدائرة الأولى من أمنها القومي للدائرة الثانية البعيدة، وهذا ما يجعل القاهرة أمام حالة من الضغط الرهيب للصمود أمام كل هذه التغيرات.
أما لو انتقلنا لشرق مصر في البحر الأحمر، فالقاهرة اليوم تواجه أزمة اقتصادية بسبب العمليات العسكرية التي نفذتها "جماعة الحوثي" على باب المندب مما أضر بحركة السفن عبر قناة السويس التي يمر بها أكثر من 12 في المئة من التجارة العالمية؛ فهذه القناة هي التي تغذي الاقتصاد المصري بوجبته الرئيسة، حيث تتجاوز إيرادات مصر من القناة 10 مليارات دولار سنويا، وفي ظل الأزمة الاقتصادية وتعويم الجنيه سيكون الإضرار بقناة السويس أشبه بالزلزال على الاقتصاد المصري.
وفي باب المندب ذاته تتضاعف الأخطار مع التحركات الإثيوبية الأخيرة، حيث وقعت إثيوبيا اتفاقا استراتيجيا مع "أرض الصومال" الدولة الانفصالية غير المعترف بها في شمال الصومال، يتيح الاتفاق لإثيوبيا استئجار موانئ الصومال الشمالية لمدة 50 عاما، وتسمح بالوجود العسكري البحري على مياه خليج عدن بالقرب من باب المندب الشريان الذي تعبر من خلاله السفن لقناة السويس، مما سيخلق توترا أمنيا جديدا بين إثيوبيا والصومال.
هذه الأخطار التي تحيط بمصر من كل حدودها تجاوزت الدائرة الأولى من أمنها القومي للدائرة الثانية البعيدة، وهذا ما يجعل القاهرة أمام حالة من الضغط الرهيب للصمود أمام كل هذه التغيرات التي تداعت في وقت واحد، ومهما بلغت القاهرة من القدرة على الصمود فإن استمرار هذه الأخطار ينذر بخطر داهم على المنطقة بأسرها.