ما بين النحاتين البريطاني هنري مور (1898 ــ 1986) والسويسري ألبرتو جياكومتي (1901 ــ 1966) كانت المسافة واسعة غير أنها ظلت فارغة، ذلك لأن كل النحاتين المعاصرين الذين اتخذوا من الجسد البشري موضوعا لهم لم يبتكروا أسلوبا يقع بعيدا عن تأثيرهما. ففي الوقت الذي احتفى مور فيه بطزاجة وترف وليونة الجسد البشري ظهر جياكومتي متقشفا، مفرطا في رغبته في الوصول بالجسد إلى أقصى حالات شظفه وشقائه.
كان مور يفضل نساءه ممتلئات مستجيبا لقوة تأثير الدائرة على رؤيته للعالم، أما جياكومتي فقد سحره الخط العمودي الخام الذي كان بمثابة عصب مشدود تحيط به كتل صماء هي ما تبقّى من الجسد البشري الذي تعرّض للكثير من عمليات الإزالة. فن مور اعتمد على الإضافة، في حين اتبع جياكومتي مبدأ الحذف في فنه. شكلت الرؤيتان مدار الأسلوب الحديث للنحت في القرن العشرين. وقد أبدو مجازفا إذا ما قلت إن مور قد تأثر في جزء من أسلوبه بتجربة الفنان هانز آرب الذي كان شاعرا في الوقت نفسه.
إلى جوار هاتين التجربتين الكبيرتين لم تظهر تجارب نحتية ذات خصوصية أسلوبية في استلهام الجسد البشري، جمالياته وقدرته على التعبير. لذلك يمكن النظر إلى تجربة البريطاني أنتوني غورملي (لندن 1950) من زاوية أنها تشكل خروجا على القاعدة. فهو نأى بفنه عن متعويّة مور ووجودية جياكوتي، غير أنه في الوقت نفسه نجح في اختراع شكل جديد للجسد البشري، وهو شكل محايد لم يكن معنيا بجنس الكائن.
ينتمي أنتوني غورملي إلى سلالة الفنانين الذين وهبهم إلهام المواد الجديدة القدرة على ابتكار أشكال جديدة
في النصف لثاني من القرن العشرين تخلّى النحاتون عن الفكرة التقليدية التي تعتبر النحت محاولة للبحث عن شكل مفقود داخل المادة واستخراجه. فمنذ الإغريق وإلى وقت قريب كان النحات يستخرج أشكاله من الحجر أو الخشب أو الطين كأنه يراها. ما حدث بتأثير فكر ما بعد الحداثة أن النحت انتقل إلى مرحلة التركيب. وهي مرحلة اهتزّت فيها القناعة في أن تكون المادة هي مصدر الإلهام الجمالي. وهو ما فتح الباب أمام دخول مواد جديدة كالحديد والألمنيوم والزجاج والإسمنت إلى عالم النحت. وكان الأميركي ديفيد سمث واحدا من كبار النحاتين الذين حملت تجاربهم تأثيرات ذلك التحول. ينتمي أنتوني غورملي إلى سلالة الفنانين الذين وهبهم إلهام المواد الجديدة القدرة على ابتكار أشكال جديدة، ربما بدت للوهلة الأولى أكثر هندسة من أن تنطوي على عاطفة. غير أن تجربة الفنان الحائز على جائزة تيرنر (1994) وهي كبرى جوائز الفن في بريطانيا تقول شيئا مختلفا تماما. ففي ذلك الفضاء الذي تتصادم فيه المكعبات في ما بينها هناك حسّ شفاف وعميق يربط الإسئلة الوجودية بقلق المصير الإنساني. بعد بحث طويل كان محوره الإنسان في شقائه توصل غورملي إلى أن الجسد البشري لم يكن بمعزل عن تأثير السياسة. في ذلك لم يكن على صلة بالفن السياسي ولا يرغب في أن يكون كذلك. تلك لحظة مهمة سعى الفنان من خلالها إلى كسر الوصفة الجاهزة.
"الجسد السياسي" هو عنوان معرض أنتوني غورملي المقام حاليا في قاعة "وايت كيوب" بلندن. قبل هذا المعرض كان الفنان قد سعى إلى أن تكون منحوتاته التي هي بالحجم الطبيعي للإنسان مصدر استفزاز للجمهور العام. وضع ذات مرة أحد تماثيله في أعلى بناية فخيل للجمهور أن هناك مَن يحاول القفز من الأعلى منتحرا. في كل عروضه كانت لديه رغبة في استعراض أسباب الهلع الكامنة في الحياة المعاصرة. لذلك لم يكن فنه مناسبة لكي ينسى الجمهور ما يتخلل حياته من مكابدات في العيش وقد أصبح رهين مخططات، لا يشارك في وضع خطوطها العريضة على الأقل. فالإنسان من وجهة نظر غورملي صار محكوما بمجموعة الرؤى والأفكار التي تُملى عليه وهو يقضي أوقاته في محاولة الفرار من شتى صنوف الضغط الذي يُسلط عليه. لكن السياسة احتكرت في عصرنا التعبير عن تلك الضغوط بل واختزلتها على هيئة قوى صار على المرء أن يتحاشى الاصطدام بها كلما تحرّك خارج حيزه الخاص. من هنا جاء تعبير "الإنسان السياسي" الذي هو ليس مرادفا لمقولة "الإنسان حيوان سياسي". الإنسان السياسي هو مجموعة الحيوات التي يعيشها الإنسان وهو يتعرض للابتزاز السياسي. وإذا ما كان الفنان قد استعان بمفردة المكعب لتركيب أشكاله فلأنه أراد أن يقول "إن الإنسان المعاصر لا يعيش داخل مكعب مغلق بل هو أيضا تحول إلى مجموعة من المكعبات المغلقة".
الإنسان المتمرّد
يميل أنتوني غورملي الذي اشتهر بنصبه الضخم "ملاك الشمال" الذي استغرق العمل عليه أربع سنوات (1994ــ 1998) إلى الأعمال الصعبة التي يتطلب تنفيذها جهدا وخيالا ووقتا. لذلك نراه في معرضه الحالي ينوّع في المواد الخام التي يستعملها وهو في ذلك إنما يهب النحت فرصة اقتحام خيال مواد جديدة. صحيح أن نحاتين سبقوه أو جايلوه قد لجأوا إلى استعمال معظم تلك المواد لكنها لم تحضر سوية مثلما حدث في معرضه "الإنسان السياسي".
تلك مقاربة تاريخية لا تستحضر من السياسة إلا بعدها الأعنف كونها فعل هدم
هذا على مستوى المواد أما تقنية استعمالها فتلك من اختراعه. وهي تقنية نجح الفنان في أن ينقل من خلالها فكرته. هناك خلطة بصرية هي ليست من الخلطات الجاهزة أعدّها الفنان مثل مكيدة، تجاورت عبرها المواد أحيانا وامتزجت في ما بينها أحيانا أخرى لتقول الشيء نفسه في تعدّدية بصرية لا نهاية لها. فإذا كان الفنان قد خصص قاعتين لحالات القهر التي يتعرّض لها الإنسان في مواجهة السياسة وكانت المنحوتات كلها قد نُفذت بشرائح معدنية صغيرة، فإنه عرض في الممر وفي القاعة الكبرى عشرات المنحوتات التي تمثل الإنسان في أوضاع مختلفة بعد أن تكون ماكينة السياسة قد سحقته وحولته إلى أثر صامت كما هو الحال مع ما تبقى من سكان بومبي بعد ثورة بركان فيزوف عام 71 ميلادي.
تلك مقاربة تاريخية لا تستحضر من السياسة إلا بعدها الأعنف كونها فعل هدم. يمشي المرء بين المنحوتات الملقاة على الأرض كأنه يمشي في مقبرة، غير أنه حين يكتشف أن ما يُحيط به ليس سوى أشكال للإنسان، تُظهره في أوضاع يمتزج فيها التحدّي بالتمرد فلابد أن تتسع أمامه مساحة الأمل. غورملي واحد من كبار متمردي عصرنا.