لبنان وتفريخ "الدكاكين الجهادية"... حدود الوظيفة والدور السياسيhttps://www.majalla.com/node/308971/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%AA%D9%81%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%83%D8%A7%D9%83%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%87%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%AD%D8%AF%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B8%D9%8A%D9%81%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A
في 15 يناير/كانون الثاني، ظهر لاعب جديد على مسرح العمليات في جنوب لبنان، بعدما أعلن تنظيم يدعى "كتائب العز" عن ولادته ببيان رسمي تداولته وسائل الإعلام وشبكات التواصل، وعن تنفيذه عملية ضد الجيش الإسرائيلي داخل الشريط اللبناني الضيق الذي لا يزال محتلا في مزارع شبعا. وبذلك، فإنه ينضم إلى الفصائل والأذرع العسكرية الناشطة هناك. وحتى اللحظة لا يزال الغموض يكتنف ظهور هذا اللاعب الجديد؛ لمن يتبع؟ وهل هو فلسطيني أم لبناني؟ وما الهدف من ظهوره في ظل هيمنة "حزب الله" على كامل المسرح الجهادي في لبنان؟
الدكاكين الجهادية
في البداية لا بد من الإشارة إلى أنه لولا البيان لما كان أحد سمع بـ"كتائب العز"، ما يعني أن فعل الظهور كان متعمدا ومقصوداّ لذاته. فيما بدا لافتا أن مقاتليه نجحوا في اختراق السياج الحدودي، والاشتباك من "المسافة صفر"، حسب البيان، مع دورية جنود إسرائيليين، مما أدى إلى مقتل 3 من مقاتليه. سبقهم 3 آخرين كانوا ضمن "مجموعة رصد"، وقتلوا قبل يومين بقصف إسرائيلي للبقعة عينها.
ورغم أن هوية التنظيم ومقاتليه لا تزال غامضة، ولا سيما مع تأكيد "حزب الله"، و"حماس"، و"الجماعة الإسلامية في لبنان" أنه "ليس منها"، ومع بقاء الجثث في عهدة الجيش الإسرائيلي، إلا أن ثمة بعض الإشارات والتسريبات التي يمكن الركون إليها للوقوف على هويته وأهدافه.
أولى هذه الإشارات هي سيطرة "حزب الله" على كامل المنطقة الحدودية، وصعوبة، إن لم نقل استحالة، وصول أفراد مسلحين إلى عمق مناطق الاشتباك دون موافقته؛ حيث أنشأ "حزب الله" مع بداية الحرب غرفة عمليات في ملاذه بالضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت، مهمتها تنظيم مسرح العمليات في الجنوب، والتنسيق مع الأجهزة الأمنية اللبنانية لتحديد من بإمكانه الظهور عليه.
أنشأ "حزب الله" مع بداية الحرب غرفة عمليات في ملاذه بالضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت مهمتها تنظيم مسرح العمليات في الجنوب
ثانيها مقايسة هذا الفعل مع الاستراتيجية التي تتبعها إيران، باستيلاد كثير من التنظيمات والميليشيات، في الدول التي لديها فيها نفوذ عسكري وسياسي، وخاصة في الجنوب السوري، حيث توجد العشرات من التنظيمات المشابهة. وتبرع إيران في استخدام هذا الفائض من التنظيمات كأوراق ضغط وتفاوض، دون تحمل أي تبعات سياسية مباشرة، مع سهولة التنصل منها، أو التخلص منها حين تقتضي الحاجة. وفي الوقت نفسه، فإن صغر حجم هذه المجموعات يشكل عائقا يمنعها من الخروج عن الإطار المرسوم لها. وفي لبنان يستخدم "حزب الله" السياسة نفسها، حيث يدعم شبكة واسعة من التنظيمات الباهتة والمحدودة الحضور والتأثير، خاصة على الساحة السنية، بهدف الحؤول دون إمكانية ظهور أي خصم أو منافس حقيقي له. وهذه السياسة تعرف في لبنان بـ"الدكاكين"، جمع دكان، وهو متجر صغير الحجم.
يقول الباحث السياسي والأستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت مكرم رباح في حديث تلفزيوني: "كل عمل عسكري في الجنوب يجب أن يكون ممهورا بمصادقة "حزب الله"، فهو المسيطر على مسرح العمليات، وتفريخ الدكاكين الجهادية لا يحصل إلا بموافقته". ويتوقع رباح استيلاد المزيد من التنظيمات المشابهة لـ"كتائب النور" من أجل تحسين شروط التفاوض بين إيران وأميركا.
من عاصمة الشتات الفلسطيني
إلى ذلك، ثمة معلومات متضاربة حول المكان الذي قدم منه مقاتلو "كتائب العز"، حيث تشير مصادر مقربة من "حزب الله" إلى أن هؤلاء "لم يفدوا إلى الحدود الجنوبية من الداخل اللبناني، بل من الجنوب السوري، حيث دخلوا إلى مزارع شبعا من إحدى النقاط التي تلتقي فيها الحدود بين جنوب لبنان وجنوب سوريا وفلسطين المحتلة".
كما تكشف المصادر نفسها أنهم "فلسطينيو الهوية"، وأنه "لا توجد أي مصلحة لحزب الله في ظهور لاعبين جدد". فيما يقول الكاتب السياسي المقرب من "حزب الله" داود رمال في حديث لموقع "سبوتنيك" الروسي: "أول من يتضرر من هذه النماذج هو حزب الله". ومع ذلك، فإن السيطرة في المناطق الحدودية السورية المتاخمة للشمال الفلسطيني هي لإيران وأذرعها، في حين أن الحكومة السورية مغلولة اليد هناك.
في المقابل، تشير التسريبات الأمنية المحدودة إلى أن أفراد هذا التنظيم فلسطينيون من مخيم عين الحلوة في مدينة صيدا جنوبي لبنان. وهذا ما يقودنا إلى استرجاع الأحداث والمعارك التي جرت في هذا المخيم، وهو أكبر مخيم للاجئين لفلسطينيين في لبنان، في سبتمبر/أيلول الماضي، بين حركة "فتح" المسؤولة عن أمن المخيمات وفق اتفاق قديم مع الدولة اللبنانية، وبين مقاتلين ينتمون إلى مجموعات إسلامية متطرفة، ويحظون بدعم لوجستي وسياسي من "حماس"، و"حزب الله"، على خلفية اغتيال قائد ما يعرف بـ"قوات الأمن الوطني" الفلسطيني في المخيم.
رعا "حزب الله" التنظيمات الوليدة، وحماها من الملاحقات القضائية اللبنانية بتهم تنفيذ أعمال إرهابية، إلى أن نجح في جعلها شريكة في أمن عاصمة الشتات الفلسطيني
لم تتوقف تلك المعارك إلا بعد قبول "فتح" بإشراك تنظيمات إسلامية فلسطينية راديكالية تدور في فلك "حزب الله" في "أمن المخيمات". لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يضغط فيها الأخير على "فتح" من خلال أمن المخيمات. في نوفمبر/تشرين الثاني 1994، دعم "حزب الله" انشقاق عدد من الفتحاويين وتأسيس تنظيمات إسلامية عقب توقيع اتفاق أوسلو، وشجعها على انتزاع السيطرة على المخيمات من أيدي "فتح"، وفي طليعتها عين الحلوة. وهو ما حصل إنما لبضع ساعات فقط، بعدما شنت فتح، بأوامر مباشرة من الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، معركة حاسمة استرجعت فيها كل مواقعها.
رعا "حزب الله" هذه التنظيمات الوليدة، وحماها من الملاحقات القضائية اللبنانية بتهم تنفيذ أعمال إرهابية، إلى أن نجح في جعلها شريكة في أمن عاصمة الشتات الفلسطيني.
"العز" لـ"حماس"
من جانب آخر، فإن اسم "كتائب العز" بحد ذاته يحمل دلالة واضحة على وجود ارتباط مع جناح "حماس" العسكري (كتائب عز الدين القسام). يضاف إلى ذلك، أن البيان وضع العملية في إطار الرد على اغتيال إسرائيل لنائب رئيس المكتب السياسي لـ"حماس" صالح العاروري وقيادات كانت معه. دون ذكر قيادات من "قوات الفجر"، الذراع العسكرية لـ"الجماعة الإسلامية في لبنان"، كانت مجتمعة به وقضت معه. وأيضا القيادي في قوات النخبة لدى "حزب الله" وسام الطويل، والذي قتل بعد أيام فقط من مقتل العاروري.
وهنا لا بد من التذكير بأن "حماس" أعلنت في 4 ديسمبر/ كانون الأول الماضي عن إطلاق تنظيم "طلائع طوفان الأقصى" في لبنان، الأمر الذي استدعى انتقادات سياسية لبنانية واسعة، ما اضطر قيادات "حماس" إلى الظهور الإعلامي المكثف لتوضيح الخطوة؛ فقد قال المسؤول الإعلامي لـ"حماس" في لبنان وليد كيلاني في حديث صحافي إن الهدف من التنظيم الجديد "استيعاب التعاطف الكبير الذي حصلت عليه الحركة بعد عملية طوفان الأقصى، ورغبة الناس في الانخراط في صفوف المقاومة". فيما قال أحمد عبد الهادي، ممثل "حماس" في لبنان إن "إقبال الشباب دفعنا لإطلاق هذا التنظيم لبناء شخصياتهم وطنيا ودينيا".
لا ريب أن "طوفان الأقصى" أنتج نشوة جماهيرية هائلة، حفزت "حماس" على العمل لمد حبال التواصل مع مختلف ألوان الطيف السني وخصوصا الأوساط السلفية
بيد أنها لم تعلن التراجع عن هذه الخطوة أبدا. وقبل الإعلان عن إطلاق "طلائع طوفان الأقصى"، دعا علي بركة، القيادي في "حماس"، خلال محاضرة في مدينة صور جنوبي لبنان، مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إلى "تشكيل أجنحة عسكرية تحضيرا لمعركة التحرير والعودة". كل ذلك يشير إلى أن تنظيم "كتائب العز" ما هو إلا ابن لـ"حماس" تسعى لتوظيفه سياسيا وعسكريا. إنما السؤال الذي يطرح نفسه: هل هو الابن الوحيد، أم إن هناك أبناء آخرين؟
لا ريب أن "طوفان الأقصى" أنتج نشوة جماهيرية هائلة، حفزت "حماس" على العمل لمد حبال التواصل مع مختلف ألوان الطيف السني، وخصوصا الأوساط السلفية والشبابية، لتقريبها من "محور المقاومة". كذلك أسهم الخطاب الديني في تحفيز رغبة الجهاد عند الشباب خاصة، ولا سيما مع الإكثار من استخدام الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحض على الجهاد. ولأن "حماس" لا يمكنها ضم أناس غير محترفين إلى ذراعها العسكرية، وبعدما رأت ردود الفعل السلبية على إطلاق تنظيم "طلائع طوفان الأقصى"، فإنها عملت على اغتنام فرصة الإقبال الجهادي الهائل عبر تدريبهم وتشجعيهم على إنشاء كيانات صغيرة على طريقة "حزب الله".
أبناء المناخ الجهادي
قبل ظهور "كتائب العز" بأيام قليلة، عُثر على جثة فتى يبلغ من العمر 18 عاما مبتور القدم في مكان قرب مستعمرة "المطلة". هذا الشاب من مدينة صيدا، غادر منزل أهله قبل شهرين وانقطعت أخباره. وفيما تقول الرواية شبه الرسمية إنه "اشترى سلاحا وتوجه بشكل فردي لمحاربة العدو"، فإنها تغفل عن ذكر مصدر السلاح، ومصدر المال لتلميذ كان يتابع تحصيله العلمي، وأين أمضى الشهرين؟ وتكشف مصادر أمنية عن تأثر هذا الفتى بالمناخ الجهادي السائد، فالتحق بمعسكر أحد الفصائل الفلسطينية الذي دربه وأعطاه سلاحا.
وبالأمس، كشفت تسريبات أمنية عن مجموعة مؤلفة من عدد من الشبان، أغلبهم من طرابلس وعكار شمالي لبنان، اتفقوا فيما بينهم على شراء زورق صغير، والانطلاق به من شاطئ مدينة صيدا الجنوبية، لتنفيذ عملية في العمق الإسرائيلي، لكن أحد أعضاء المجموعة كان في الوقت نفسه مخبرا لواحد من الأجهزة الأمنية، فقدم له المعلومات التي جعلته يلقي القبض عليهم. هذه الأحداث المتوالية دفعت بعض وسائل الإعلام اللبنانية إلى التساؤل: "هل عادت الجماعات المتشددة لتستبيح لبنان تحت ستار محاربة إسرائيل؟".
نجح "حزب الله" في اجتذاب السنة إلى صفه من خلال تقديم نفسه بأنه راعي المقاومة ضد إسرائيل. ومن جهة أخرى، ضاعف القلق المسيحي المتنامي من خطر عودة الجماعات الإسلامية المتطرفة
وهذا كله يمكن اعتبار أنه يمثل ذورة نجاح "حزب الله". فقد نجح في اجتذاب السنة إلى صفه من خلال تقديم نفسه بأنه راعي المقاومة ضد إسرائيل. ومن جهة أخرى، ضاعف القلق المسيحي المتنامي من خطر عودة الجماعات الإسلامية المتطرفة، بما يدعم سرديته التي بناها عقب دخول ميليشياته إلى سوريا لمحاربة التنظيمات الإرهابية. وفوق هذا كله عزز من أوراقه التفاوضية عبر الإيحاء بأن البديل عن الاتفاق معه هو فوضى "الدكاكين الجهادية"، وأنه هو وحده من يملك القدرة على لجم الانفلاش الجهادي، وضبط سلوك "حماس"، التي تمارس العمل العسكري في لبنان بشكل علني للمرة الأولى منذ تأسيسها، ولا سيما عقب المشهديات والرمزيات التي برزت في تشييع صالح العاروري ورفاقه، والتي زادت منسوب القلق، المسيحي خاصة، من انبعاث إرث الوجود الفلسطيني في لبنان من رقاده.
وفي الوقت الذي يظن فيه هؤلاء الشبان وجماعاتهم الصغيرة، أنهم يخدمون القضية الفلسطينية، ويجاهدون في سبيل الله، فإن وظيفتهم لا تتعدى حدود الاستخدام على طاولة السياسة. أما سلاح الجماعات ذات الحجم الأكبر، فلا دور له في قتال إسرائيل، أو التخفيف من جحيم غزة، بل هو سلاح للعبث الداخلي فقط وتطويع الأصوات المعترضة. مثلما فعلت "الجماعة الإسلامية"، التي ما كاد يعلو نجمها "الجهادي" بعض الشيء، حتى أمعنت في استعراضاتها المسلحة فرديا وجماعيا في رسائل موجهة للداخل؛ داخل التنظيم نفسه، والداخل السني عموما.