من بيننا من يقولون إنّهم يقرؤون الكتاب من غير اهتمام بهوامشه. فهم لا يرون فيها أي إضافة ذات أهمية للمتن. آخرون، وربّما هم القلّة، يذهبون إلى القول إنّهم يبدؤون بالهوامش، مفترضين أنّ كبار المؤلّفين يتعمّدون وضع بعض أفكارهم وملاحظاتهم خارج المتن وعيا بأهميتها وبـ "تفرّدها"، وربما إبرازا لها. بهذا المعنى فهي توضع "خارج" المتن، لكي تظهر داخله بشكل أكثر تجليا. هذا التّضارب حول قيمة هامش الكتابة ودلالته، ربّما يكشف عن خلاف أكثر عمقا، وهو المتعلّق بدلالة الثنائي مركز/هامش بصفة عامة، وبقيمة كل طرف من طرفيه. وهذا بالمعنى الإناسي، والاجتماعي وحتى السياسي.
لعلّ الارتباط الأوّلي للثنائي مركز/هامش بصفحة الكتاب هو الذي رسّخ لدينا، منذ بدايات احتكاكنا بالكتب، اعتقادا بأنّ له، أساسا، معنى مكانيا. وبالفعل، فقبل أن يُشحن بدلالات رمزية، وقبل أن تلوكه ألسن السياسيين وعلماء الاجتماع، كان هذا الثنائي يُستعمل بداية، شأنه شأن الثنائي يمين/يسار، في معناه المكاني، معناه الجغرافي أو، كما يقول أصحاب الهندسة، معناه الطوبولوجي. الهامش هو ما يوجد في الأطراف. إنّه ما يوضع في الحواشي، وما يقوم "إلى جانب" المتن، بل ما يوجد "أسفل" المتن. فهو دائما "خارج المتن" إن لم يكن تحته، وفي الأحوال جميعها، فهو يحتل مكانا بعيدا عن المركز. وهو يستمد دلالاته أساسا من الموقع الذي يتخذه.
فضلا عن هذه الخاصّية المكانية، فإنّ هذا الوجود "تحت" رسّخ، عند الأغلبية، معنى انتقاصيا يحط من قيمة الهامش، فهو دوما "نزول إلى الحضيض". لذلك، فحتّى بعد أن انتقل المفهوم إلى ميادين أدبية أو اجتماعية وسياسية، فإنّه احتفظ بالمعاني السّلبية للإهمال والعزل وعدم الاندماج، بل الضّعة والضَّعف وفقدان الأهمية، وذلك نسبة إلى قطبية المركز وقوّته. إلا أنّ الأهمّ هو أنّ الهامش سيظلّ في منأى عن المركز خارجا عنه. وهذا حتى بعدما سيتخذ دلالات أخلاقية واجتماعية، ولعل هذا ما تفيده عبارة "سكان الضواحي"، التي تدل على الهامشية وعدم القدرة على الاندماج، وما يترتب عن ذلك من مختلف أشكال الإقصاء.
لعلّ الارتباط الأوّلي للثنائي مركز/هامش بصفحة الكتاب هو الذي رسّخ لدينا، منذ بدايات احتكاكنا بالكتب، اعتقادا بأنّ له، أساسا، معنى مكانيا
شيئا فشيئا، ستعمل بعض الأبحاث، في ميدان علم الإناسة على وجه الخصوص، على زحزحة هذه المركزية، وسيردّد أصحابها بعبارة لا تخلو من ركاكة: "إن الهامش يتمركز، مثلما أن المراكز تتهمّش". كما ستعمل بعض الفلسفات المعاصرة على تفكيك هذا الثّنائي، بالمعنى العميق للتفكيك، الذي لا يقتصر على فكّ الأواصر، وإنّما يجرّ طرفي الثنائي نحو بعضهما إيمانا بأن كل طرف من طرفي الزوج ليس إلا الآخر ذاته في إرجائه كما يقول صاحب التفكيك.
على هذا النحو، لن تعود علاقة المركز بالهامش علاقة داخل بخارج. فالهامش لا يوجد مستقلاّ عن المركز في منأى عنه، وإنّما هو مشدود إليه، منجرّ نحوه، إلى حدّ أنّنا يمكننا أن نقول إنّه هو المركز ذاته في تصدّعه وابتعاده عن نفسه. الهامش هو ما يشكّل فضيحة المركز، وما يكشف عن خلل ما يدّعيه من مركزية.
ليس الهامش حاشية تتخذ مكانها خارجا. إنّه ليس محلا هندسيا أو جغرافيا، وإنّما هو "موقع" استراتيجي. إنه النقطة التي تتخلخل عندها المركزية. وهي نقطة لا مكان معينا لها لأنها نقطة متحركة. الهامش ليس حالاّ في محلّ، وإنّما هو حركة، وبالضبط حركة تصدّع الداخل والخارج معا. إنّه المجال المفتوح للانفصال اللامتناهي عن الآخر والالتقاء اللامتناهي معه. وهو الحركة التي تشهد أنّ كل داخل ينطوي على خارجه، وأنّ المنظومة تنطوي على ما يفضحها، وأنّ انسجامها غلاف وهمي يخفي توتّرات تغلي من ورائه. الهامش هو القوى المتنافرة التي تصدّع المركز وتفجّره و"تجعله يخرج عن أطواره"، و"يفقد صوابه" ويخرق قواعد لعبته.
بين الهامش والمركز ليست هناك علاقات مكانية، ولا حتى منطقية، فالهامش لا يقابل المركز، وإنّما يخترقه. نحن أمام علاقات قوة وتسلط، وليس أمام علاقة هدنة وسلم. وحتى في ما يتعلق بالمكتوب وما يحيط به من حواش، فإن الهوامش غالبا ما تتدخل في المتن، لتحدّ من إطلاقيته، وتُنَسّب معانيه، وتُوقف عموميتها. فالهامش في آخر صفحة الكتاب هو في الغالب، حدّ من تدفق معنى النصّ، وربط بظروفه وملابساته، وإفصاح عن نوايا الكاتب ومراميه. وبذلك، فهو يتدخل في تحديد معاني المتن، ويعيّن حدودها.
الهامش لا يقوم ضدّ المركز ولا يناقضه، وإنّما يخالفه ويفارقه، فيكشف عن خلله
ضدّ التقسيمات ثنائية الأبعاد: متن/حاشية، مركز/أطراف، فوق/تحت، يضع مفهوم الهامش نفسه ضمن فضاء تعدّدي، وهندسة متعدّدة الأبعاد Pluridimensionnelle. وهو لا يحدّد نفسه بأن يتّخذ موقعا مضادا. فليست علاقة الهامش بالمركز علاقة متضادّين ولا نقيضين. الهامش لا يقوم ضدّ المركز ولا يناقضه، وإنّما يخالفه ويفارقه، فيكشف عن خلله. وهو لا يضع نفسه داخل منطق التّعارض، ولا يدرجها داخل منطق ثنائي القيمة، حتى ولو كان منطقا جدليا يسعى إلى التركيب بين النقيضين، وإنّما يدركها وفق "منطق" الاختلاف، أي وفق حركة تجعله "يسكن" المركز وينجرّ إليه لينخره ويفكّ أواصره. الهامش لا ينتقد المركز، وإنّما يفضحه ويفكّكه. إنه يقف عند الحدود والنهايات، عند النقطة التي تفجّر الكل، فحتّى إن بدا مجرّد تمرّد لا يخضع لقانون، للقانون، إلاّ أنّه سرعان ما ينكشف كفضيحة تخرق جميع القواعد.
ما أبعدنا عن التصور المكاني الطوبولوجي للمتون والهوامش، والأطراف والضواحي. لهذا فإن المراكز غالبا ما تعتبر الهوامش عارا وسبّة. وهي ما تفتأ تعبر عن رغبتها في التخلص من هذا الذي يعلق بها كي تنعم بالصفاء والهدنة، وكي تتحرر من أيّ إحراج، وتخلد إلى التطابق المهادن.