الذكاء الاصطناعي بين اليوتوبيا والديستوبياhttps://www.majalla.com/node/308936/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B5%D8%B7%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%88%D8%AA%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D8%B3%D8%AA%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A7
الذكاء الاصطناعي متهم في نواياه الأخلاقية، واختياراته المستقبلية. إنه بعيد عن اليوتوبيا، وقريب من الديستوبيا. فهذا جيفري هينتون، الأب الروحي للذكاء الاصطناعي، والذي أعلن عن استقالته من شركة غوغل عام 2023، يقول إن الوقت قد حان لمواجهة المخاطر الوجودية للذكاء الاصطناعي. إن البشرية لديها دوافع أصيلة وعميقة مثل العثور على الطعام، والمأوى، والبقاء على قيد الحياة. خوف هينتون، هو أن الذكاء الاصطناعي ليس لديه تلك الدوافع الإنسانية، وما يقلقه أن يُزوّد الروبوتات بدوافع أخرى خاصة بهم. من المعقول تماما أن تكون البشرية مرحلة عابرة في تطور الذكاء الاصطناعي. في البدء كان الذكاء البيولوجي، ثم أسلم الراية إلى الذكاء الرقمي، الذي بدوره يبدأ في الحصول على خبرة مباشرة بالعالَم.
التقنية وجوهرها
في محاضرة شهيرة للفيلسوف الألماني مارتن هايدغر عام 1954، بعنوان "التقنية"، أو "التكنولوجيا"، يذكر أن التقنية، وجوهر التقنية ليسا الشيء نفسه، فعندما نبحث عن جوهر الشجرة علينا أن نفهم، أن الذي يحكم كل شجرة، ليس هو ذاته شجرة، يمكن أن نصادفها ضمن أشجار أخرى، وبالمثل فإن جوهر التقنية ليس مطلقا شيئا تقنيا. هكذا فإننا لن ندرك علاقتنا بالذكاء الاصطناعي، طالما اقتصرنا على تمثله وممارسته ومحاولة التلاؤم معه، أو الهروب منه.
يأخذ هايدغر على التقنية، وهو ما يصحّ على الذكاء الاصطناعي، أنه مشغول بتفكير حسابي، تمثيلي، قياسي، للموارد والاحتياطات، الغابات، الأنهار، المعادن، البشرية كاحتياطي للمُرَاقَبَة، لقياس استطلاعات الرأي المدعومة بالبيانات، والنِسب المئوية، والتصنيفات، والفصائل. خمس فصائل تبقى بعد دمار العالَم، الأذكياء، المثقفون، المسالمون، الصادقون، الشجعان، في فيلم الديستوبيا Divergent، "المتشعب" 2014، الفصيل أهم من العائلة. تصميم مجتمع شمولي جديد بائس برعاية رقمية.
لن ندرك علاقتنا بالذكاء الاصطناعي، طالما اقتصرنا على تمثله وممارسته ومحاولة التلاؤم معه، أو الهروب منه
فيلسوف آخر من جامعة أكسفورد، صاحب كتاب "الذكاء الفائق: المسارات والمخاطر والاستراتيجيات"، السويدي نيك بوستروم، الذي أطلق نبوءته، أو أمثولته القاتمة في 2003. يُطلب من آلة ذكية تصنيع أكبر عدد ممكن من دبابيس الورق، إلا أن الآلة الذكية مع الوقت، ومع التفاني في تنفيذ الأمر، ستعتبر البشر عائقا أمام مهمتها، أولا لأننا قد نطفئ الآلة، وثانيا لأن الأجسام البشرية تحتوي على عناصر يمكن تحويلها إلى دبابيس ورق. أشار بوستروم إلى أن المستقبل سيكون فيه الكثير من دبابيس الورق مع اختفاء البشر تقريبا. البشر كمادة خام، كمخزون احتياطي، استراتيجي، لصناعة الدبابيس. يعتقد نيك بوستروم أن سيناريوهات الذكاء الاصطناعي الأكثر تطرفا هي الأكثر ترجيحا، سواء أكانت جيدة جدا، أو سيئة للغاية. السنوات المقبلة ستكون غريبة على نحو متزايد.
الآلة المتسيّدة
في عام 2011 قامتْ شركة IBM بتصميم كمبيوتر يُدعى واطسن الذي هزم منافسيْن محترفيْن في برنامج مسابقات تلفزيوني شاهده ملايين. بقدرة حاسوبية هائلة، استطاع واطسن معالجة بيانات بمعدلات عالية تصل إلى 500 غيغا بايت في الثانية، أو ما يعادل مليون كتاب في الثانية. كان لدى واطسن أيضا إمكانية الوصول إلى 200 مليون صفحة من المادة في ذاكرته، بما في ذلك المخزون الكامل للمعرفة في موسوعة "ويكيبيديا". وكان باستطاعة واطسن تحليل هذا الكم من المعلومات بصورة حية على شاشة التلفزيون. بعد فوز واطسن في المنافسة قال كين، أحد المتنافسيْن المهزوميْن: أنا شخصيا أرحب بأسيادنا من الروبوتات الجديدة.
في الحال خرج اسم ثقيل، وهو ميتشيو كاكو، العالِم الأميركي، ياباني الأصل، المتخصص في نظرية الأوتار، ومجال الفيزياء النظرية، وقال: هل بالإمكان الذهاب إلى واطسن لتهنئته بالفوز؟ كان قصد كاكو الخبيث، أن واطسن لم يكن يعلم أنه فاز على الإطلاق. واطسن عبارة عن آلة متطوّرة لجمع المعلومات، أسرع ملايين المرات من العقل البشري، واطسن باختصار لا يملك الوعي الذاتي. يُعرّف هيغل حقيقة الوعي الذاتي في كتابه "فينومينولوجيا الروح"، بأنه شعور بالذات، ارتداد الوعي إلى ذاته، ثم يرتقي إلى وعي صدعي بمعرفته. هل الروبوت واطسن يعرف أنه يعرف؟
ما زال الشعور والوعي بالذات عند الروبوتات في نطاق الخيال الروائي والسينمائي، وبعيدا عن واقع الروبوتات الحقيقي
في فيلم "2001: أوديسة الفضاء"، 1968، للمخرج ستانلي كيوبريك، يرفض الكمبيوتر هال 9000، الاعتراف بأنه أخطأ، فهو يشعر بالخطأ، وينكره، ويقتل أربعة من رواد سفينة الفضاء قبل نجاح ديف، رائد الفضاء الأخير، في تفكيكه. ما زال الشعور والوعي بالذات عند الروبوتات في نطاق الخيال الروائي والسينمائي، وبعيدا عن واقع الروبوتات الحقيقي، منذ ستينات القرن الماضي، إلى الآن.
يناقش ميتشيو كاكو في كتابه "مستقبل العقل"، معضلتين تواجهان الذكاء الاصطناعي عند محاكاته للعقل البشري، هما التعرف على النموذج، والحس السليم، أو الحس المشترك. عندما يدخل روبوت غرفة ما، عليه أن يجري ملايين العمليات الحسابية، بحيث يختزل الأجسام التي يراها إلى بيكسلات وخطوط ودوائر ومربعات ومثلثات، ثم يحاول مطابقتها مع آلاف الصور المخزّنة في ذاكرته، فيرى الكرسي مجموعة من الخطوط والنقاط، لكنه لا يستطيع بسهولة تمييز معنى الكرسي، فإذا تغيّر وضع الكرسي، وتغيّرت زواية النظر إليه، أصبح الروبوت عاجزا أمام النموذج. أما الدماغ البشري، فيأخذ آليا التغيرات الجديدة من زوايا نظر مختلفة، وهو يجري لاشعوريا ملايين الحسابات من دون جهد يبدو على صاحبه.
بديهيات العالم المادي
أمّا معضلة الحس السليم، أو الفهم المشترك، فهي أن الذكاء الاصطناعي لا يفهم البديهيات حول العالَم المادي والبيولوجي مثل "الطقس السيئ غير مريح"، أو "الأمهات أكبر سنا من بناتهن". إن تصنيف الحس السليم لطفل في الرابعة من عمره يتطلب مئات الملايين من سطور الرمز الرياضي للروبوت. يسأل ميتشيو أين أخطأنا؟ والإجابة هي أن العقل ليس حاسوبا رقميا، بل هو شبكة من الخلايا العصبية التي تعيد ربط نفسها باستمرار بعد كل مهمة جديدة.
طريق الذكاء الاصطناعي هو نفسه طريق الديستوبيا، طريق المدينة البائسة، القبيحة، الكابوسية
في جامعة ميجي اليابانية قام بعض العلماء بالخطوات الأولى لخلق روبوت يمتلك الوعي الذاتي. بدأوا ببناء روبوتين، بُرمج الروبوت الأول، لتنفيذ حركات معينة، أما الروبوت الثاني فبُرمج لمراقبة الروبوت الأول، ونسخه. هكذا أصبح الروبوت الثاني عاكفا على مراقبة حركات الروبوت الأول، وتقليده. هذه هي المحاولة الأولى في التاريخ التي يُصنع فيها روبوت فقط، ليمتلك شيئا من الإحساس بالوعي الذاتي. التجربة أشبه بمرآة، المُزيَّف هو الروبوت الأول، والحقيقي هو الروبوت الثاني، استنادا لاكتسابه الوعي الذاتي، والروبوت الأول، على العكس، هو الحقيقي، بينما الروبوت الثاني المُقلّد، هو الزائف، استنادا إلى نسخه غير المبدع للأصل.
خطورة الذكاء الاصطناعي على البشرية ليس ما نجده في أفلام مثل ماتريكس، وترمنايتور، بل ما نجده في فقدان ملايين الوظائف، ومشاع التمييز، والتحيز، والظلم، والعبث ببيانات البنوك، وشبكات المواصلات، ومحطات الكهرباء، ومخزونات الوقود، والقنابل الذكية، والطائرات المسيرة، وتخليق الفيروسات، وتراكم النفايات، إن طريق الذكاء الاصطناعي هو نفسه طريق الديستوبيا، طريق المدينة البائسة، القبيحة، الكابوسية.
أحد السيناريوهات المُتوقّعَة، لمستقبل الذكاء الاصطناعي، والتي نراها على شاشة هوليوود، هو سيناريو العيش في شرنقة الديستوبيا، وهو عيش يحدث فيه كل شيء بشكل بائس، بداية من الخيال الإبداعي الفقير، ووصولا إلى توزيع حصص الطعام في مراكز إيواء جماعية كانت في الماضي ملاعب كرة قدم.