شيء ما يحصل بين دمشق وطهران في سياق إقليمي ودولي معقد في البحر الأحمر والعراق وسوريا ولبنان، بعد "مفاجأة أكتوبر" التي فجرتها "حماس". شيء ما له دلالات وإشارات بين حليفين استراتيجيين.
سوريا ليست أمام "لحظة السوفيات" المصرية عندما قرر الرئيس محمد أنور السادات طرد آلاف الخبراء وأحدث تحولا استراتيجيا انتقل فيه إلى الضفة الأميركية. سوريا في 2024 ليست مصر 1972. والعالم والشرق الأوسط قبل خمسين سنة ليسا كما هما عليه الآن. لكن هناك شيئا مثيرا للاهتمام ويستحق المتابعة، وهنا بعض التفاصيل.
- بعد 2011 وضعت إيران كل طاقاتها لـ "منع انهيار النظام السوري"، لأسباب تخص مصالحها الاستراتيجية وتمددها في الشرق الأوسط. نجحت الى العام 2015 عندما تدخلت روسيا و "أنقذت النظام" ومنعته من الانهيار. باتت دمشق محصورة بين حليفين: طهران وموسكو. كما باتت سوريا مقسمة إلى مناطق نفوذ ترتع فيها جيوش أميركا وبريطانيا وفرنسا وتركيا وروسيا وإسرائيل.
- أراد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي قطف ثمار اختراقاته بزيارة رسمية نهاية العام الماضي تثبت تنازلات سيادية تعويضا عن الدماء والأموال والنفط. زيارة هذا "الحليف الاستراتيجي" أرجئت مرات عدة، لأن الرئيس بشار الأسد رفض الموافقة على مسودات اتفاقات كان طلبها ضيفه القادم بعد سنوات عجاف، لكنه جاء في مايو/أيار الماضي، بالتزامن مع هجمة من التطبيع العربي تبلورت بمشاركة الأسد في القمة العربية في جدة السعودية شهر مايو/أيار الماضي.
- تواصل التطبيع العربي تحت سقف العقوبات الغربية؛ حيث واصلت دول عربية التقارب الثنائي والجماعي رغم المنغصات السورية والملاحظات والخيبات، لفتح باب غير مباشر مع الأسد. وهناك دول عربية أرادت الإبقاء على العقوبات لاستخدامها ورقة ضد دمشق. كما ان الاردن باشر ضربات جوية لملاحقة "مهربين" داخل الأراضي السورية.
مع قرب قيام زعيم عربي بزيارة دمشق الشهر المقبل، تم إنجاز صفقة: منع إيران من استخدام مطار دمشق في نقل شحنات أسلحة إيرانية، مقابل توقف إسرائيل عن قصف المطار وإحراج دمشق
- بعد "مفاجأة أكتوبر"، واصلت الدول العربية التطبيع، ورفضت دمشق الانصياع للطلبات الإيرانية، كما لم ترحب علنا بهجمات أكتوبر/تشرين الأول "الحمساوية"، ولم تفتح جبهة الجولان، لكنها تابعت تحول شمال شرقي سوريا وجنوبها الشرقي ساحة للمواجهة الأميركية– الإيرانية.
- واصلت إسرائيل غاراتها ضد مواقع إيران في سوريا خاصة مطاري دمشق وحلب بطريقة محرجة للسلطات السورية، لمنع طهران من استخدامهما في المواجهة الإقليمية و"حرب الظل" بين تل أبيب وواشنطن من جهة، وطهران من جهة ثانية.
- مع قرب موعد قيام زعيم عربي بزيارة غير مسبوقة لدمشق الشهر المقبل، تكثفت جهود سرية لإنجاز صفقة: منع طهران من استخدام مطار دمشق في نقل شحنات أسلحة إيرانية وتفكيك مخازن عسكرية إيرانية في المطار، مقابل توقف إسرائيل عن قصف المطار وإحراج دمشق.
الجديد هو حديث "خبراء" إيرانيين أو مسؤولين سابقين، عن أن هذه الاغتيالات ما كانت لتتم إلا باختراق إسرائيلي داخل الجهاز الأمني السوري
- نجاح إسرائيل في اغتيال قيادات من "الحرس الثوري" الإيراني في دمشق، مثل القيادي رضي موسوي الذي قتل جنوبي العاصمة السورية نهاية العام الماضي، واغتيال خمسة من "الحرس" في قلب دمشق قبل أيام.
- الجديد هو حديث "خبراء" إيرانيين أو مسؤولين سابقين، عن أن هذه الاغتيالات ما كانت لتتم إلا باختراق إسرائيلي داخل الجهاز الأمني السوري. وهذا اتهام خطير وله تبعاته. هو يأتي من حليف هو ايران لايتهاون مع اتهامات كهذه في حال ثبتت، وهناك نماذج لعقوباته لـ "الخونة" او من يقفون ضد مشروعه، في العراق ولبنان واليمن... وسوريا أيضا.
- إجراء سلسلة من التغييرات الأمنية في سوريا، مثل نقل اللواء كفاح ملحم من رئاسة شعبة الاستخبارات العسكرية إلى رئاسة مكتب الأمن الوطني، ونقل رئيسه اللواء علي مملوك ليصبح مستشارا أمنيا في الرئاسة السورية، بالتزامن مع جملة من الإجراءات داخل أجهزة الأمن تشمل دمج بعض الأفرع وتعديل صلاحيات بعضها الآخر وسحب وجودها في بعض مؤسسات الدولة.
هل هذا يعني أن الأسد قرر التخلي عن "المستشارين الإيرانين" كما أبعد السادات "الخبراء السوفييت" قبل نصف القرن؟
- الإقدام على اعتقالات و"تهميشات" شملت شخصيات بارزة في قطاعي الاقتصاد والأمن والإعلام، كان لها دور بارز في السنوات السابقة.
- هناك معلومات بأن موسكو أعربت امام شخصيات سورية عن "قلق من انهيار ما تبقى من مؤسسات الدولة في حال استمر الوضع على ما هو عليه من فساد واستقطابات داخلية وعقوبات خارجية"، وأكدوا للأسد نصا على "ضرورة إنقاذ ما تبقى من الدولة".
هل هذا يعني أن الأسد قرر التخلي عن "المستشارين الإيرانين" كما أبعد السادات "الخبراء السوفييت" قبل نصف القرن؟ وهل هذا يعني أن دمشق انتقلت من اللعب بين حبلي طهران وموسكو إلى وضع بيضها في السلة الروسية- العربية؟
مرة ثانية، سوريا الحالية- المقسمة والمدمرة والضائعة والنازحة- ليست مصر التي ورثها السادات وخاض معها "حرب أكتوبر"، ورتب أوراقه سراً مع الدول العربية الرئيسة والمارد الأميركي قبل طرد السوفييت، ومضى بها إلى "اتفاق فصل القوات" مع مصر، ثم إلى "كسر الحاجز النفسي" بزيارة الكنيست، ووقع اتفاق سلام كامب ديفيد وغيّر وجهة الشرق الأوسط، لكن شيئا ما يحصل، وما علينا سوى انتظار الحركة المقبلة من اللاعب الإيراني في الملعب السوري، بعد الشرارات الخطرة التي رماها بعض "خبراء" طهران في لهيب الشرق الأوسط.