كان العنوان الرئيس للمنتدى الاقتصادي العالمي هذه السنة، "إعادة بناء الثقة"، موضع توافق لدى مَن يُسمَّون النخبة العالمية من سياسيين واقتصاديين وعلماء. فالجميع يتجرع مر الصراعات والحروب بين الدول، باردة أكانت أم ساخنة، من أوكرانيا إلى غزة، ومن البحر الأحمر إلى جزيرة تايوان، وهي باتت تطرق أبواب أسوج وجيرانها من الدول الاسكندينافية الهانئة.
لم يهدأ سعي الدول وراء مصالحها الاقتصادية والجيوسياسة، على الرغم من استقرار العولمة في أفقر حي في أفريقيا. إنه لسعيٌ مدجج بالفرقاطات والأساطيل، حيث تلتقي مصالح متضادة حينا وتفترق في أحيان، مما يولد الخلافات حتى داخل البيت الواحد، من أجل سلعة استراتيجية من هنا، أو شركة عملاقة من هناك. يندر ما يجمع، سوى ما تمليه المصالح والسياسات والأزمات الاقتصادية الداخلية والخارجية، ورفاه شعوب على حساب أخرى.
ليست مسألة عابرة أن تهتز الثقة بالحكومات التي تشرّع القوانين، على ما خلص إليه مقياس "إيدلمان" للثقة لعام 2024، في دافوس، الذي يصف الحكومات بأنها أقل أخلاقية وكفاءة من الشركات، في حين يحجم المبدعون عن الابتكار لغياب الثقة في قدرة الحكومات على التشريع بشكل فاعل. واعتبر الاستطلاع السنوي الذي يشمل آراء أكثر من 1400 من خبراء الأخطار وصانعي السياسات وقادة الشركات، أن "المعلومات الخاطئة والمضللة" هي في مقدم التهديدات التي تواجه الاقتصاد العالمي على المدى القصير. وقد علّق الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش على ذلك في دافوس قائلا: "عندما تنهار المعايير العالمية، تنهار الثقة أيضا، وأنا شخصيا مصدوم من التقويض المنهجي للمبادئ والمعايير التي كنا نعتبرها أمرا مفروغا منه، وأنا على يقين من أننا يمكننا أن نتوقع ما هو أسوأ بكثير ما لم نتخذ إجراءً ما"، وهو كان يتحدث عن غزة.
المعلومات المضللة والزائفة، أو ما يمكن تسميته "المحتوى الاصطناعي"، من أكبر الأخطار على المدى القصير وفقا لتقرير الأخطار العالمية لعام 2024 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي
"التكنولوجيا الفتاكة"
شكل موضوع "الذكاء الاصطناعي"، الى القضايا السياسية والعسكرية، محورا رئيسا في المنتدى، ربما لم يأخذ حقه من النقاش والتغطية الإعلامية، على الرغم من مشاركة نجوم من أمثال الرئيس التنفيذي لشركة "مايكروسوفت" ساتيا ناديلا، ورئيس شركة "أوبن إيه. آي." سام ألتمان وغيرهما، كما لم يخلُ خطاب رسمي تقريبا من الإشارة إلى النمو المضطرد والسريع للذكاء الاصطناعي والتعبير عن المخاوف من "المصير المظلم" الذي ينتظر البشرية في غياب المعايير والضوابط الموحدة والتسليم بعدم القدرة على السيطرة على هذه "التكنولوجيا الفتاكة". إلا أن الحديث مكرر، لا يحمل جديدا، ولا يبشر بسلام مقبل، بل يوحي بأن الزمام قد بدأ يفلت من بين أيدي أصحاب القرار والتشريع والرقابة، فيما تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدي آخذة في النمو والتمدد وبسط سيطرتها دون رادع أو حسيب.
وفيما انصبّت المناظرات على الضوابط والتشريعات، ثمة تساؤل عن جدواها فعلا في سباق عالمي لا يستكين. ربما تنجح هذه القوانين في ضبط اندفاع الشركات لتطوير خوارزميات وبرامج و"معلومات" ذات نهج تدميري، حيث تعلّم الآلة نفسها بنفسها، وتتحكم بالمصائر. لكن لربما يفوت المشرعين والمتحفظين، أن الذكاء الاصطناعي تقنية تتسلل بسهولة لتصل إلى أيدي من لا تطاله يد التشريع والقانون، ولا يقوى على منعه أو محاسبته، أي القوى والعصابات والميليشيات والدول المارقة، وحتى الأفراد. فقد يماثل وقع الضرر الناجم عن ذلك، المخاوفَ من إنتاج سلاح بيولوجي، أو أقله قد تؤدي "معلومات مضللة" لخوارزميات متفلتة من عقالها، الى إشعال الحروب، وتنطلق شرارتها من تسرب الأخبار من دول ومجتمعات مثل الصين والولايات المتحدة وروسيا، أو أي دولة أوروبية تشعر أن هناك ما يمس مصالحها الاقتصادية، أو رغد العيش لشعوبها المرفهة وطريقة عيشهم.
بيت القصيد هنا اصطناع المحتوى، أو ما يمكن تسميته "المحتوى الاصطناعي"، وتزوير الحقائق والبيانات من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي، وقد سمعنا مطولا تحذيرات من المعلومات والرسومات والصور المضللة والزائفة التي يمكن أن يولدها "تشات جي. بي. تي." وغيره من التطبيقات المشابهة، والتي صنفت كأكبر خطر على المدى القصير وفقا لتقرير الأخطار العالمية لعام 2024 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس.
هل يتمكن "الذكاء المستقل" من التمثل بشخصيات طبيعية، وانتحال هوياتها وحتى بصماتها، وبياناتها المصرفية الشخصية والتلاعب بحساباتها وإضاعة ثرواتها؟
قد يخيل الى الكثيرين أن تلك مسألة تستدعي الوعي فقط والتحقق من المعلومات، وقد يكون ذلك ممكنا من خلال الأبحاث فحسب. لكن ماذا لو تعلقت تلك المعلومات الزائفة بخيارات المستثمرين وقراراتهم، كتمرير أخبار مالية واقتصادية ملفقة، أو المس بسمعة مصارف وشركات مهما كان نوعها؟ ألا يمكن في تلك الاحوال، أن نتوقع انهيار أسهم أو بورصات عالمية، مع ما يستجره ذلك من ارتدادات اقتصادية جارفة؟
أخطار الائتمان المصرفي
لا شك في أن للذكاء الاصطناعي التوليدي دورا كبيرا في تعزيز القدرة على إدارة أخطار الائتمان واكتشاف الاحتيال لدى المصارف، لكن ألا يخطر مثلا أن يتمكن هذا "الذكاء المستقل" من التمثل بشخصيات طبيعية، وانتحال هوياتها وحتى بصماتها، وبياناتها المصرفية الشخصية والتلاعب بحساباتها وإضاعة ثرواتها، هذا فضلا عن عدم إمكان تتبع مصدر الانتحال والتلاعب، بسبب طبيعة "الصندوق الأسود" لتطبيقات الذكاء الاصطناعي؟!
أنه أمر حقيقي لا لبس فيه. فلنتذكر كيف كان رد فعل الأسواق بعد ساعات من بث منشور زائف على حساب "أكس" التابع لهيئة الأوراق المالية والبورصة الأميركية، مما أدى إلى انعاش سعر عملة البيتكوين أخيرا! لنتذكر كيف اختفى بنك "كريدي سويس" من الوجود في العام المنصرم. ولنتخيل ماذا يمكن أن يتسبب به خطأ ما لدى استخدام الذكاء الاصطناعي في شركة "ديلويت" مثلا، التي طرحت برنامجا آليا مبتكرا للدردشة يعتمد على الذكاء الاصطناعي لـ75 ألف موظف لديها في أوروبا والشرق الأوسط في محاولة لتعزيز الإنتاجية.
"المحتوى غير المسؤول" كفيل بخراب الكوكب، ليس عبر صواريخ متطايرة بسبب "اجتهاد" روبوت ما فحسب، بل ربما بقراره الذاتي تفريغ أو تصفير حسابات مصرفية بالمليارات بغمضة عين
أما في الجانب التقني البحت، فالأخطار ليست أقل شأنا. فقد تكون خاطئةً التقاريرُ المتعلقة بتقييم الأخطار التي ينشئها الذكاء الاصطناعي التوليدي بناءً على معنويات السوق، أو التقارير عن العملاء من مصادر عبر الإنترنت. يمكن أن تكون الخدمات المالية غير مناسبة للعملاء من خلال روبوتات المحادثة المدعومة بالذكاء الاصطناعي التوليدي. أما الأخذ بمخرجات الذكاء الاصطناعي التوليدي في كلتا الحالتين، فيمكن أن يعرض النظام المالي لأخطار كبيرة، وفقدان الثقة بالمؤسسات المالية والمصرفية التي تتبنى حلولا قائمة على الذكاء الاصطناعي، وليس ذلك بتحدٍّ بسيط مع إنفاق المصارف نحو 274 مليار دولار عام 2023 لأهداف حماية بياناتها فقط.
في الواقع لا يقل موضوع "المحتوى الاصطناعي" خطورة عن القضايا الأمنية والسياسية؛ نظرا الى ما يشكله من أخطار رهيبة على الأمن العالمي في شقيه العسكري والمالي. فـ"المحتوى غير المسؤول" كفيل بخراب الكوكب، ليس عبر صواريخ متطايرة بسبب "اجتهاد" روبوت ما فحسب، بل ربما بقراره الذاتي تفريغ او تصفير حسابات مصرفية بالمليارات بغمضة عين، والخوف كل الخوف أن يكون الحل الوحيد لإيقاف الآلة هو الآلة نفسها، وهذا ما يبدأ بخوارزميات بسيطة قد لا تنتهي بروبوتات مدججة بالسلاح تنتشر بين ظهرانينا ذات ليلة تقرر فيها القبض على الانسان.