ما أكثر الكلام، ما أقل الكتابة

ما أكثر الكلام، ما أقل الكتابة

يفترض الحديث عن الكتابة والكلام الوقوف بداية عند معنى هذا الأخير (الكلام) بالنظر إلى أن الأولى (الكتابة) هي العمل الطبيعي الملازم للكاتب.

يمكن تلقّي الكلام على نحو يحتمل أكثر من معنى، موجزه على أبعد استقصاء، ثلاثة مناح:

منحى الكلام كمهنة أو فن يتعارض كليّا مع مهنة أو فن الكتابة.

منحى الكلام كمشافهة واحتراف للقول بتواز مع احتراف الكتابة، فيما يشبه ازدواجية أو متلازمة.

منحى الكلام كلغة محكية في الكتابة.

عن المنحى الأخير الذي يتعلّق بتوظيف الدارج، أو العامية أو المحكي من اللغة اليومية في الكتابة وهو شائع لدى كثرة من الكتاب، كل بحسب رؤيته الخاصة، سواء من يستعمل الأمر بمنطلق جمالي صرف، محاولا التسلّل إلى المناطق المنسية أو المقصيّة فيها بغرض تفجير طاقاتها كي تتناغم بشكل هارموني مع لغة الكتابة داخل النصّ، أو سواء يُرام بها النزول إلى القيعان المظلمة للمجتمع لا بغرض محاكاة الواقع اليومي ورسم مفارقاته الصارخة بسخرية سوداء وحسب، وإنما هي كذلك، محاولة حثيثة للقبض على المنفلت في الوجدان الشعبي.

لا شك أن بعض هؤلاء الكتاب قد يكون ماهرا في الكلام وركيكا في الكتابة، وقناعه كمتكلم يخفي هشاشة وجهه ككاتب

وأما المنحى الثاني للكلام كمشافهة يحترفها زمرة من الكتاب بتواز مع احتراف الكتابة، والأمر شبيه بازدواجية فتراهم يتكلمون كما يكتبون، ويكتبون كما يتكلمون، أكثر من ذلك تحسب أن حاجة الكلام لديهم ضرورة لا بد منها، كأن الكتابة لا تفي بالغرض، وما يظنونه انفلت من الكتابة ولم تستطع أن تقبض عليه، يحاولون عمليا تداركه وملاحقته بأن يطبقوا عليه بقبعة الكلام، كل هذا ينطوي على مفارقة صارخة، كأنما الكتابة لدى هؤلاء محض عالم مفخّخ بسوء الفهم، لا بد للكاتب أن يذيله ويلحقه بالكلام، كيما يوضح ويفسر ويشرح ويزيد ويضيف ويستطرد على سبيل ما يراه إضاءة.

لا يعي الكاتب في هذا النوع من الازدواجية أنه يلغي وجوده الذي سبق أن ابتكره كتابة، بأن ينفيه بالكلام، فما يبدو له موهبة ثانية أو مضاعفة، بخلق هوامش أو عوالم موازية مشافهة، فيما يحكي دائما عن كتابته ويفضح أسرارها علنا أو يفصح كاشفا مطبخها من جهة، ومن جهة أخرى يقوضها ويزج بها في أحادية فهم يفرضه على القراءة المفتوحة للتلقي، ولا يعدو الأمر أن يكون حفر قبر لنصه.

إن القارئ الذي يتوجه إلى الكتاب عبر وسيط الكلام المسبق للكاتب، لا يقرأ النص فعلا، باستقلال عن الصورة الجاهزة المقدمة سلفا على سبيل المشافهة، فلا يتجاوز في قراءته الحدود المرسومة لتلك المشافهة عمليا، إذ لا يعدو اكتشافه للنص أن يكون بحثا عن ظلال المعنى الأحادي الذي أعلنه الكلام آنفا على سبيل التوضيح أو الإشارة. وقراءة من هذا القبيل ليست سوى دليل ناقص يسيء للنص، يقف عند عتباته ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يسبر أغواره، ويتشعّب في غابته اللانهائية، فالكلام حكم على فضيلة تعدّد وميزة انفتاح النص بأحادية صلفة أجهزت على جماليات غموضه، وفداحة عمقه.

لا شك أن بعض هؤلاء الكتاب قد يكون ماهرا في الكلام وركيكا في الكتابة، وقناعه كمتكلم يخفي هشاشة وجهه ككاتب، ولا ريب أن ثمة كتابا يجيدون الكتابة كما يجيدون بالوقت نفسه الكلام، غير أن الكلام مهما أوتي الكاتب حكمة وفن إجادته يظل مهنة مشاعا، ونزهة على السطح، في أحسن حالاته يشوش على أفق الكتابة اللانهائي، يقوضه أو يسطح أعماقه اللاقرار لها.

أن يترك الكاتب منطقته النبيلة والخطيرة الخاصة حصرا بالكتابة، وينزلق خارجها صوب مشاع الكلام هو شكل من أشكال ابتذاله

 

ثمّ المنحى الأول للكلام كفن أو مهنة تتعارض كليا مع فن أو  مهنة الكتابة، وهذا يكمّل المنحى الثاني ويضاعف من أثره، إذ يصطدم الممعن في المسألة  بمفارقة تاريخية وضعت الكتابة موضع إدانة من قبل، وعلى أوضح وأفدح وجه من لدن سقراط مثلا الذي لم يكتب على حد تعبير نيتشه، وأغرب أسباب محاربته للكتابة وفق زعمه، أنها تمارس خطرا على الذاكرة وبذلك وجب الحذر منها، فما من شيء يحفظ للذاكرة سلامتها ويجعلها أكثر اتقادا غير الكلام، يقول أفلاطون معززا فكرة أستاذه سقراط الذي يقدم الكلام على الكتابة فاصلا بينهما على نحو تفاضلي إذ ينتصر للكلام كشيء حيّ فيما يحطّ من شأن الكتابة كشيء ميّت، لا يقف أفلاطون عند هذه الحدود، ويمضي قصيا حين يقرّ بسذاجة فن الكتابة برمته مجرّدا إياه من القيمة والمعنى، مقابل تمجيده لفن الكلام، وهذا بالاحتكام دائما إلى الذاكرة المؤسسة على فاعلية الكلام لأنها داخلية وعمليا فهي مستحبة، بعكس الذاكرة المؤسسة على الكتابة لأنها خارجية، وهي لذلك غير مستحبة، بل ومنحطة.

هذا الانحياز إلى الكلام سيغدو نسقا متكاملا مع فرديناند دي سوسير في القرن العشرين الذي سيولي الكلام والمنطوق قيمة مركزية على حساب اللغة والكتابة.

إلى أن ينقلب ظهر المجن مع جاك ديريدا الذي  سيعيد لبرج بابل الكتابة سموقه على حساب أنقاض صرح الكلام، والمسألة بمجملها يطويها في تاريخ الميتافيزيقا المعني بمركزية اللوغوس من أفلاطون إلى هيغل، فمركزية اللوغوس الموصوفة كأصل للحقيقة ترتبط أساسا بالحط من شأن الكتابة وكبتها خارج الكلام، ولعلّ مقولة جيل دولوز بأن الكتابة نظيفة والكلام قذر، تكثف هذا الانقلاب الجذري في تاريخ الأفكار على المعادلة السابقة.

هكذا فالأصل في جدل الكلام والكتابة بصورته التقليدية والآنية، كان مفارقا ولا يزال محض عالمين منفصلين، والهوة الهائلة فيما بينهما تتسع باطراد.

لعلّ أهم ما يمكن للكاتب أن يعمله بصدد الكتابة هو الصمت، فالكتابة تتماهى مع الصمت، فيما تتحاشى فخ الكلام، ميممة بوجهها شطر النص خلافا للشفاهة. لا يعدو الكلام بالنسبة للكاتب أن يكون إلا تشويشا وإزعاجا لأفق كتابته، محض إعدام لحيوات كتابه المفتوح على التعدد والاختلاف ولا نهائية التأويل والتذوق. أن يترك الكاتب منطقته النبيلة والخطيرة الخاصة حصرا بالكتابة، وينزلق خارجها صوب مشاع الكلام هو شكل من أشكال ابتذاله لا محالة، فمهنته أو مهمته تبدأ وتنتهي عند الكتابة... في المحصلة، ما أكثر المتكلمين وما أقل الكتاب، ما أكثر الكلام، وما أقل الكتابة.

font change