يلاحظ السائر على شاطئ أي مدينة ساحلية حركة المراكب والسفن التي تتجه إلى مرفئها او التي تغادره. اتساع المرفأ او ضيقه يحدد نوع الحركة البحرية وحجمها؛ من الناقلات التجارية الكبرى المحملة النفط أو المستوعبات الحديد الى سفن الشحن ذات الشكل الهندسي المقفل التي تنقل في العادة السيارات أو السفن العاملة في نقل الحبوب والمواشي والسلع الزراعية الأخرى وأصناف من البضائع التي يحول حجمها دون ايوائها في المستوعبات. وبعدما حلّت الطائرات مكان السفن كأهم وسائل النقل البشري باتت علاقة الركّاب بالبحر تتركز في العقود الأخيرة على المجالين السياحي والترفيهي إضافة الى الرياضات المائية.
وقد تكون هذه الأخيرة هي الأقرب نسباً الى الأسلوب الذي باشر الإنسان به استكشافه ميزات التنقل البحري: السرعة وتجاوز عقبات البر وصعوباته وتجنب المرور في أراضي قبائل وممالك معادية وتحمّل نزعات الطمع والعدوانية عند زعماء غير موثوق بهم. تضاف الى ذلك، القدرة على نقل كميات أكبر من البضائع بواسطة عدد أقل من البشر خلافاً للنقل البري الذي كان يتطلب مرافقين كثراً وحيوانات صبورة ومدربة على السير مسافات طويلة.
البدايات
ليس من اتفاق على المكان الذي شهد أول عملية انتقال مائي للبشر أو ما إذا كان الصيد او البحث عن غذاء هو العلة الأولى لركوب البحر. لكن ثمة ترجيحا أنه بدأ في مكان ما في بلاد الرافدين لسفر الأفراد في المقام الأول. ويُعتقد أن التحول من السفر النهري بين المراكز السكانية الى نظيره البحري جرى في العراق الحالي لقرب مصبَّي دجلة والفرات اللذين يلتقيان في شط العرب، من مياه الخليج التي تشكل جزءا ولو صغيرا وشبه معزول مما يسمى "المحيط العالمي". في حين أن حضارات قديمة أخرى، كالحضارة الفرعونية في مصر او حضارتي وادي الإندوس ونهر يانغتسي في الهند والصين، كانت كلها تتمتع باكتفاء ذاتي في الموارد والزراعات ولم تبرز حاجاتها الى التحول من النقل النهري الى ذلك البحري سوى في مراحل متأخرة. وعلى الرغم من أن القوارب بأنواعها ووظائفها عُرفت في مصر، كالقارب الليلي للإله رع والسفن الحربية الفرعونية وتلك المخصصة لنقل المحاصيل الزراعية، إلا انها لم تغادر وادي النيل إلا نادرا.
وسائل النقل الأولى كانت أطوافا مصنوعة من جذوع أشجار أو أنواعا من القصب مجموعة إلى بعضها بحبال من ألياف نباتية ربما ساعدت الصياد على اقتناص سمكة مناسبة، قبل ان تحل القوارب المنحوتة من جذع شجرة واحدة كبيرة، ثم تلك التي تتشكل من ألواح خشبية راحت تُضمّ الى بعضها بوسائل مختلفة من الحبال والمسامير الخشبية ثم المعدنية. بعد ذلك ظهرت القوارب ذات الأرضيات المسطحة ثم المقعرة التي تسمح بوضع بضائع وسلع تحت الركاب. اختراع الشراع كان تطوراً حاسماً في عالم السفن. ثم راح البشر يكتشفون الفوارق بين الأشرعة وأهمية تعديل اتجاهاتها وأشكالها لتحسين قدرتها على التقاط الريح، من دون ان يختفي الدفع بالمجاذيف الذي ترافق مع الشراع على مدى ألفيات عدة من السنين قبل ان ينتهي التجذيف من النقل البحري ويبقى في مجال الرياضة.
من مدغشقر الى نيوزيلندا
لا يمكن الحديث عن المسيرة البشرية من دون تناول الجانب الذي كانت البحار والمحيطات ساحته الرئيسة. واحدة من المغامرات المذهلة التي قام البشر بها هي تلك التي دشنتها الشعوب المعروفة اليوم بالشعوب الأسترونيزية التي انطقلت من جزيرة تايوان قبل الميلاد بخمسة عشر قرناً لتصل الى جزيرة مدغشقر جنوب المحيط الهندي غرباً وجزيرة الفصح في شرق المحيط الهادئ غربا. ومن جزر هاواي في الشمال الى نيوزيلندا في الجنوب. لم تكن التجارة هدف هجرات الشعوب هذه لكن مجرد الانتقال عبر المسافات اللانهائية للمحيطين الهندي والهادئ على متن قوارب خشبية واستناداً الى معارف متوارثة حول مواقع النجوم والاجرام السماوية، أمور تبعث على التأمل في خلفيات ودوافع لم يصل العلم الحديث بعد الى فك طلاسمها كلها.