زرت متحف المستقبل في دبي منذ أيام ولم يغادرني، فالمتحف قبل كل شيء يسعى إلى تمييز نفسه عن المتاحف التقليدية الأخرى وفي العالم كله، سواء من حيث الواجهة الخارجية المغطاة بالخط العربي الذي يؤكد شغف الإمارات بالفن والثقافة، أو من حيث الابتكار والتخييل والتجريب والإبداع في الداخل.
متحف المستقبل يختلف عن المتاحف الأخرى، تلك التي تجدد نفسها فقط بإقامة معارض ضمن السياق المعروض من قِطَع، بينما متحف المستقبل، هو متحفٌ حيّ في تمثيل الخيال الإنساني والفكري أمام زُوّاره، وقابلٌ للتجديد وإثراء معروضاته المتطورة، وحتى المكتشفات المتخيلة، مثل مختبر التجارب العلمية والذي يناقش مستقبل الإنسان والطب والمدن...
في طريق العمل كل يوم، كنت أرى المتحف من الخارج، مبنى فولاذيا مرتفعا عن الأرض فوق ما يشبه التل الأخضر، زرعت فوقه أنواع من النباتات المحلية والأشجار المقاومة للجفاف، بينما الزجاج مزين بفن الخط العربي وبشِعر ملهم، ليجمع ما بين العلم والهندسة والفن بطريقة استثنائية، فهو المبنى الوحيد في العالم التي يغطي واجِهَتُهُ الخارجية كلها خط عربي، ليؤكد شغف الإمارات بالفن والثقافة والابتكار، ويصبح الثالوث الجديد الذي يؤمن بالتقدم، من خلال التخييل والتجريب والإبداع.
مبنى تحمل إدارته هدفا واضحا وهو قيادة الحركة العلمية والبحثية
هو من أكثر المباني إبداعا وجاذبية، مبنى تحمل إدارته هدفا واضحا وهو قيادة الحركة العلمية والبحثية، ليس في المنطقة العربية وحسب، بل في جميع أنحاء العالم، فمن الداخل هيكلٌ من سبع طوابق، وفريق عمل يأخذون كل مجموعة زائرة على حدة، إلى رحلة من الخيال، وكيف من الممكن أن تكون دبي عام 2071، أي في السنة المئة للإمارات التي أعلنت اتحادها في عام 1971.
الأفكار الجريئة المعروضة في المتحف كانت تُدهش الزوار كل حين، فهناك جلسات بحثية تهدف إلى إظهار الأفكار الجسورة وبحلول مستحدثة، من أجل المزيد من الإلهام، وربما لتحديات الغد، أهمها الطريقة العلمية للسيطرة على التلوث الأرضي، وطريقة الاستفادة من الطاقة الشمسية بالكامل، والعلاجات الطبية الخارقة من خلال الـ (دي إن أيه)، والمواصلات السريعة والطائرة الخالية من الحوادث... كما أن التجارب الحيّة التي قدموها لنا من خلال الرؤية واللمس والشم والتذوق... كانت بلا شك تجسد حياة الإنسان في المستقبل، وكأن الإمارات ستصبح موطنا للخيال المتفائل.
هذه الواجهة العالمية الفولاذية القابلة للبرمجة، بهندستها المتقدمة، والعازلة للحرارة والصدأ، في منتصفها فراغ كبير على شكل عينٍ بشرية، فهل القصد أن ترى المستقبل؟ أو أن الفراغ هو المستقبل المتخيل؟ أو ربما هي العين التي تقصد أن تقول: لا تنظر إلى الوراء.
الرحلة المكوكية التي انطلقنا منها، منحتنا غنى المتخيل والرؤية، حيث سافرنا من الأرض إلى الفضاء، ومن داخل المتحف، ثم العودة إلى الأرض، والبداية للتعرف على عمق فكرة المتحف، ونكمل للتعرف على تقنيات المتحف الهندسية الحيوية، ومستقبل الاستدامة، والشفاء من الأمراض في مختبرات تحتفظ بكل كائن حي على الأرض، وبشكل مصغر، وشرح متقدم عن أسلوب المعالجة بين كل هؤلاء، والاستفادة من بلسمهم لمداواة بعضهم البعض، ومع ذلك لم ينس المتحف أن يسلط الضوء على الطفل ومكتبته، إلى الطوابق الأخرى الملهمة، من الواحة، فالمناخ، لتأتي حقيقة مكانة دولة الإمارات العربية المتحدة كواحدة من أوائل الدول التي سعت في هذا الشأن، حيث أعلنت التزامها بتحقيق الحياد المناخي وتغيير المناخ، بحلول 2050، بعد جهودها في استضافتها (كوب 28) قبل أسابيع.
وفي النهاية ترتبط الثقافة بالمجتمع، وتفاعله، علما وفكرا وفنا، فالمبنى بحد ذاته لوحة فنية منفصلة عن كل المباني الأخرى في المدينة، لكنه سيبقى معلما علميا، ومنارة للمعرفة، مستهدفة العقول العربية، بل ومن أجل أن يصبح مقرا للمبادرات العلمية القادمة.
وأخيرا لا تتعلق الأسئلة في الوقت الحاضر بالتطورات المستقبلية كلها، فهي كما نرى تحت تصرف الإنسان في كل مكان من خلال الإنترنت، لكن ليس هناك مقر واقعي يمكن التعامل فيه مع المستقبل، سوى متحف المستقبل.