ارتبط اسم سلمان رشدي برواية واحدة لا تترجم، على الرغم مما أغدقته عليه من شهرة وثروة، حقيقة موهبته، كما أنها لا تبرر اللعنة التي لاحقته بمجرد صدورها، والتي بسببها عاش حياة من التوجّس والخوف لأكثر من ثلاثين عاما، إثر فتوى الخميني الشهيرة بهدر دمه. حياةٌ كادت أن تنتهي باغتياله في صيف السنة المنصرمة، إثر تعرضه للطعن على يد شاب أميركي من أصول لبنانية وهو يهمّ بإلقاء محاضرة في مؤسسة تشاوتاكوا بنيويورك، وهو الحادث الذي حرمه من إحدى عينيه.
في خريف عام 1988 صدرت رواية سلمان رشدي، الكاتب البريطاني ذي الأصول الهندية، "آيات شيطانية"، لتكون خامس عمل يصدره بعد أعمال كرّسته نقديا وأظهرت جانبا مهما من موهبته السردية ذات المتن الحكائي الفريد من نوعه، الذي يمزج ببراعة بين التاريخ والأسطورة والسياسة. فباستثناء روايته "غيموس" الصادرة نهاية سبعينات القرن الماضي، التي شابها شيء من التهوّر وعدم النضج، وضعته أعماله سواء تلك اللاحقة لها أو الصادرة قبلها بين أهم السُرّاد في وقت وجيز، ولعل أشهر هذه الأعمال عند القارئ العربي روايته "أطفال منتصف الليل" الحائزة جائزة "بوكر" البريطانية عام 1981 والتي تلتها رواية "العار" المترجمة أيضا إلى اللغة العربية. لكن تبقى الأعمال الأكثر نبوغا واستثنائية هي تلك التي كتبها ابتداء من عام 2015، وتأتي روايته "عامان، ثمانية أشهر وعشرون ليلة" كأكثر أعماله حفرا في مشروعه السردي الذي يستمر في إذهالنا مع تقدم سلمان رشدي في العمر.
هذه المرة بعد أشهر قليلة من محاولة اغتياله، أصدر روايته الأحدث "مدينة النصر"، التي نقل الكاتب مارتن شيلتون أن جزءا مهما منها كتب أثناء وجود سلمان رشدي في الحجر الصحي إثر إصابته بفيروس كوفيد19 الذي كاد أن يودي بحياته، لنعرف لاحقا على لسان صاحب "العار" أنه كان في صدد تصحيح مسوّدتها الأخيرة وقت تعرضه للاغتيال، وكأن القدر شاء أن تولد هذه الرواية في ظروف حام فيها شبح الموت على كاتبها الذي أخبره الأطباء بعد خروجه من غرفة العمليات أول مرة أن نجاته تعتبر معجزة، وهذا ما أثار سخريته مثلما صرّح في لقاء مصوّر جمعه بالناقد الفرنسي الشهير أوغستان ترابينار: "أليس من الطرافة أن يستفيد من المعجزة رجل لا يؤمن بالمعجزات؟".
مزج صاحب "أطفال منصف الليل" عشرات الأساطير الهندية وغيرها من المحكيات الأسطورية المتعلّقة بالخلق، ليبعث أسطورة ممعنة في الحداثة والخيال
عبقرية الفكرة
مزج صاحب "أطفال منصف الليل" في هذه الرواية الصادرة مطلع السنة الجارية عن دار "بنغوين" العشرات من الأساطير الهندية وغيرها من المحكيات الأسطورية المتعلّقة بالخلق، ليبعث أسطورة ممعنة في الحداثة والخيال، تشكّلت من خلالها مدينة سحرية أعطت بدورها الحياة لحضارة متخيَّلة، تزعم الرواية أن التاريخ من فرط عجائبيتها قام بتجاهلها، لكنه لم يستطع محوها لسبب غاية في البساطة، هو السبب نفسه الذي أحسن الفيلسوف الروماني إميل سيران التعبير عنه في كتابه "السقوط في الزمن" حين كتب "تبدأ الحضارة بأسطورة وتنتهي بالشك". وفي رواية سلمان رشدي تبدأ حضارته المتخيلة أيضا بأسطورة وتنتهي حين يطال الشك أسباب وجودها.
جاء نص "مدينة النصر" وفيّا لأسلوب سلمان رشدي في الكتابة، الذي كثيرا ما يصدم القراء بجرأة تخييلية تبدأ بانفصال تام عن المعقول والمنطق، على نحوٍ يكرس الاعتقاد أننا أمام عمل قد يصنّف في خانة الخيال العلمي والفانتازيا التشويقية. اعتقاد، سرعان ما يمحي حين يدرك القارئ مع تقدّم السرد أن كلّ هذا الخيال اللامعقول، والجنوني في معظم الأحيان، لم يكن عرضا لعضلات الكاتب المعرفية وقدرته اللامتناهية على توظيف التاريخ والأسطورة والمحكيات الشفهية في نص متجانس ومشوق، بل هو تأثيث لفكرة تتشكّل شيئا فشيئا، تختمر بها ومنها الرواية، لتكون الثيمة الرئيسة لها، فكرةٌ تعبّر بوضوح عن وجهة نظر الكاتب في خصوص قضية راهنة وحديثة.
يجد القارئ نفسه منساقا من دون أي تمهيد في العوالم السحرية للرواية، فسلمان رشدي ليس من النوع الذي ينشغل برغبات قارئه على حساب نصه، وكأنه يقول: "اخترتَ أن تقرأ لي... جيّد، اعلم إذاً أنني أكتب بهذه الطريقة". ربما لهذا السبب تجد معظم أعمال رشدي لا تنشغل بتحضير القراء للأحداث اللاحقة في الرواية، بل تدخلهم مباشرة فيها، على غرار ما فعله في هذا العمل الملحمي من أول فقرة: "في اليوم الأخير من حياتها، وعندما بلغت من العمر مئتين وسبعة وأربعين عاما، أكملت الشاعرة العمياء، صانعة المعجزات، والنبيّة بامبا كامبانا، قصيدتها السردية الضخمة المكرسة لبيسناغا، ودفنتها في إناء من الطين مختوما بالشمع في قلب أطلال الحصن الملكي، كرسالة إلى المستقبل. وبعد أربعة قرون ونصف قرن، اكتشفنا هذا الإناء وقرأنا للمرة الأولى التحفة الخالدة المسماة "جاياباراجايا"، ما يعني "النصر والهزيمة"، مكتوبة بالسنسكريتية، طويلة مثل رامايانا، مكونة من أربعة وعشرين ألف بيت، تعلمنا أسرار الإمبراطورية التي أخفتها عن التاريخ لأكثر من مئة وستين ألف يوم. لقد عرفنا فقط الأطلال المتبقية، وكان ذكرنا لتاريخها في حالة تدهور أيضا، بسبب مرور الوقت وعيوب الذاكرة وتزييف الحقائق من قبل الذين جاؤوا بعدها. عند قراءة كتاب بامبا كامبانا، تمت استعادة الماضي، وتم إحياء إمبراطورية بيسناغا كما كانت مع محاربيها وجبالها الذهبية، وروحها السخية، وفتراتها من البخل، وضعفها وقوتها. لقد سمعنا للمرة الأولى السرد الكامل لهذه المملكة التي بدأت وانتهت بالحريق والقطع... إليك هذه القصة، محكية هذه المرة بلغة مبسطة من قبل مؤلف هذه السطور الذي ليس عالما ولا شاعرا لكنه مجرد حكواتي. يقدم هذا الإصدار للتسلية النقية وربما التنوير لقراء اليوم، الكبار والصغار، المثقفين والأقل تعليما، الباحثين عن الحكمة والذين يستمتعون بالجنون، شماليين وجنوبيين، مؤمنين بديانات مختلفة وملحدين، العقلاء والضيقين، الرجال والنساء وجميع فئات المجتمع بينهم، أبناء النبلاء والعمال، الناس الطيبين والخونة، النصابين والغرباء، الحكماء المتواضعين والمجانين المفتقرين إلى الانفتاح".
ملخّص
تبدأ أحداث الرواية في القرن الرابع عشر، إثر معركة دامية بين مملكتين تقعان في جنوب الهند سقطتا من ذاكرة التاريخ، وبسببها تفقد الصغيرة بامبا كامبانا والدتها التي أحرقت حيّة أمامها في مشهد فظيع لم يضاهه فظاعة إلا ما كانت ستؤول إليه حال بامبا لولا رأفة السماء وعنايتها، حين قدّرت المشيئة ممثلة في إلهة هندية قديمة أن تهيّئ الصغيرة لحياة تجمع فيها بين الملك والنبوّة، لتصير لاحقا أداة السماء لتغيير مجرى التاريخ.
بالنسبة إلى سلمان رشدي فإن السعي لتأسيس مجتمع نسوي هو سعي في اتجاه الوهم
هكذا تصبح بامبا كامبالا صوت السماء في الأرض، ويد الإلهة الهندية التي بها تحقق إرادتها المقدّسة. ولأنها كذلك تجد الصغيرة نفسها تمتلك قدرات خارقة تتجاوز فهمها، لكنها سرعان ما يوحى إليها بقدرها الذي من أجله نجت من الموت، وهو أن تساهم في ازدهار مدينة عظيمة ستحمل اسم "بيسناغا" أي "مدينة النصر"، ستكون أكثر مدائن العالم عجائبية وجمالا، ليس في عمرانها فحسب، بل أيضا من حيث طريقة وجودها على هذه الأرض.
قدّرت الإلهة الهندية أن توجِد مدينة النصر على نحوٍ مُعجزٍ وعجيب. فهي مدينة لن تبنيها سواعد الرجال، ولن يسقي أرضها عرقهم من أجل أن تظهر للعيان، كما لن يستغرق بناؤها شيئا من أعمار بُناتها. حتى المقيمون فيها سيوجدون بالطريقة نفسها. لن يولدوا كما يولد البشر، ولن يخرجوا من أرحام أمهاتهم، بل لن ينسبوا إلى آباء تفترض الطبيعة والمنطق أن يكونوا السبب في وجودهم. أناس بلا ذاكرة ولا تاريخ ولا أسر ولا أصدقاء ولا وجود سابق لهم قبل وجودهم في هذه المدينة السحرية.
أوحت الإلهة الهندية إلى بامبا كامبالا أن قدرها هو إنشاء هذه المدينة من العدم، مستعينة بحقيبة بذور إذا غرست أنبتت مدائن وكائنات شتى، يكفيها أن تسرّ بما ترغب فيه، لتخرج من الأرض القصور والمنازل وتتشكل الحدائق والجنان، بل في مقدورها أيضا أن تنبت بشرا ليعمّروا مدينتها. بالطبع سيخلقون بلا ذاكرة ولا ماض وستكون قلوبهم صفحات بيضاء كأياديهم، أما أرواحهم فستكون أوعية فارغة، لم تدنسها المشاعر البشرية المتناقضة، ولم تعانقها ديانة أو عقيدة، وحدها بامبا كامبالا من تملك القدرة قبل الحقّ في تشكيل ذكرياتهم وملء أرواحهم ومسخ العدم الذي جاؤوا منه إلى وجود حقيقي.
السير في اتجاه الوهم
هكذا تبدأ حكاية الحضارة التي شطبها التاريخ من سجلّاته، تماما كما كتبتها بامبا كامبيانا رغبة في إنجاز المهمة التي كُلفت بها، والتي لم تكن إنشاء مدينة سحرية من العدم فحسب، بل أيضا التأسيس لعالم تتساوى فيه النساء مع الرجال، وهو عالم بدا من اليسير خلقه، فإلهة هذا العالم أنثى، وملكة هذه المدينة ونبيتها امرأة، وليس في مقدور عالم إلا أن يكون نسويا وليس من المعقول أن ينتهي إلى عالم ظالم للنساء؟
هنا تظهر عبقرية الروائي وهو يوصل نصه إلى الفكرة الفلسفية التي من أجلها كتبت هذه الرواية والمتمثلة في سؤال كثيرا ما طرح دون إجابة مقنعة "هل في مقدور الذكورية أن تختفي في مجتمع نسوي بالكامل؟". سؤال يبدو أن سلمان رشدي لم يطرحه رغبة في معرفة الجواب، بل ليفتح بابا أمام حقيقة تاريخية مدوّية تحب الحداثة أن تزعم أنها ضبابية أو أنها نسبية على الأقلّ، فبالنسبة إلى سلمان رشدي فإن السعي لتأسيس مجتمع نسوي هو سعي في اتجاه الوهم، فبعيدا عن المفاهيم المنددة بالذكورية إلى حدّ التجريم، فإنها شئنا أم أبينا ترتبط بالطبع الغرائزي للبشر، ومجرّد التفكير في القضاء عليها سذاجة فلسفية، إذ يعني ذلك القضاء على الجنس البشري.
مكّنت الإلهة الهندية بامبا كامبانا من حياة مديدة تشبه الأبد، جعلتها على مدى مئتين وخمسين عاما تعمل على تأسيس بيسناغا مدينة النصر، لتؤوي أول مجتمع بشري متصالح مع أنوثته، لكنها سرعان ما تدرك مع الوقت استحالة ما ترغب في تحقيقه من مجتمع يكفر بكل ذهنية ذكورية، ربّما لأن غايتها في وجود مثل هذا المجتمع يتناقض مع الوجود في حد ذاته، أو لأنها كانت مجرّد نبية، ليست مهمتها إنقاذ البشر، بل إعلان سقوطهم الدائم فحسب، مثلما كتب ذات يوم إلياس كانيتي.
"فيكتوري سيتي" أو "مدينة النصر"، ملحمة أسطورية كتبها صاحبها بنفس يجمع بين السلاسة والثقة، استطاع من خلالها سلمان رشدي أن يبقى وفيا لأسلوبه المتميز الذي يمزج بين الخيال والواقع والتاريخ والأسطورة على نحوٍ لم يسبقه إليه أحد، مع لمسة دعابة كثيرا ما نجدها في جميع أعماله، وهي اللمسة التي قال عنها في لقائه مع أوغستان ترابينار "لا أحب الكتب التي لا دعابة وخفة روح فيها، وهي مشكلة أجدها في علاقتي مع كتاب كبار، فماري آن إيفانس المعروفة أدبيا بجورج إليوت كاتبة عظيمة، لكنك لن تجد دعابة واحدة في كل أعمالها، وهذا ما يجعلني أجد حرجا في قراءتها. إن الكتابة تأتي على النحو الذي تأتي عليه، كما أنها انعكاس لشخص الكاتب، وبالنسبة لي كثيرا ما وجدتني مهتما بالدعابة في كتاباتي بغاية تحقيق المتعة. إنها طريقتي لأجعل القارئ يجلس ويصغي الى سردي".