المشروع الأميركي وشروط السلام

خريطة طريق لوقف حرب غزة والحل الشامل

Reuters
Reuters
عناصر من الشرطة الاسرائيلية يراقبون فلسطينيين يؤدون صلاة الجمعة خارج المسجد الاقصى في القدس في 19 يناير

المشروع الأميركي وشروط السلام

تنشط الإدارة الأميركية مؤخرا لتسويق مشروعها لإدارة غزة بعد نهاية الحرب، والذي يتلخص في إعادة السلطة الفلسطينية إليها بعد تدريب وتأهيل عشرات الآلاف من الفلسطينيين لاستلام الأمن فيها تحت اسم "تجديد" السلطة الفلسطينية. وهي تريد أيضا من الدول العربية أن تقوم بدعم السلطة الفلسطينية في غزة بإرسال قوات عربية لمساعدتها إلى أن تتمكن من تثبيت نفسها، عدا عن القيام بتحمل تكاليف إعمار غزة.

في زيارته الأخيرة لتركيا والدول العربية وعلى رأسها وأهمها المملكة العربية السعودية والسلطة الفلسطينية، قال أنتوني بلينكن، وزير خارجية أميركا، إن تركيا والدول العربية التي زارها والسلطة الفلسطينية تقبل بأن يكون لها دور في غزة، شرط أن يكون ذلك جزءا من مشروع سياسي لـ"حل الدولتين".

ولتسويق مشروعه، يُظهر الإعلام أن هناك تعارضا بين ما تريده أميركا وما تريده إسرائيل. الأولى تريد عودة السلطة الفلسطينية لغزة، بينما الأخيرة تريد أن تكون لها اليد العليا أمنيا في القطاع. وسواء كان ما يثار بشأن "الخلاف" بين البلدين حقيقيا أم محاولة لتسويق المشروع الأميركي على أنه مختلف عن المشروع الإسرائيلي، فإن المشروع الأميركي فيه ثلاثة افتراضات هي موضع شك:

الأول، أن إسرائيل ستنجح في القضاء على الفصائل المقاتلة في غزة، وأنها ستتمكن من بسط سيطرتها على القطاع، ومن بعد ذلك ستقوم بتسليمها للسلطة الفلسطينية المدعومة عربيا. لكن القتال في غزة لا يشير إلى نجاح إسرائيل في مهمتها، فلا زالت الفصائل الفلسطينية المقاتلة تستهدف المدن الإسرائيلية وتوقع الكثير من الخسائر في صفوف الجنود الإسرائيليين، ولا زال الأسرى من جنود دولة الاحتلال لديهم.

والثاني، مرتبط بالأول، وهو أن الحرب ستنتهي خلال أسابيع. وكما ذكرنا بداية هذه الحرب في مقالة سابقة فإن الأزمة ستطول، وما نراه على أرض الواقع يؤكد ذلك، وهو عكس ما يروج له، فهذه الحرب أبعد بكثير من أن تنتهي قريبا. ولقد صرح أكثر من مسؤول حكومي إسرائيلي مدني وعسكري بأنهم سيحتاجون لأشهر عديدة وربما لسنوات للقضاء على الفصائل المسلحة التي تقاتل في غزة.

AFP
وزير الخارجية السعودي الامير فيصل بن فرحان يتحدث امام المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس في 16 يناير

والثالث، أن الحرب ستبقى محصورة في غزة. والحقيقة أنه رغم عدم وجود مصلحة لجميع دول المنطقة في توسع الحرب، فإن هذه الرغبة لا تكفي لمنع ذلك؛ فقد تحول البحر الأحمر لساحة مواجهة مشتعلة، جزء منها، الضربات الأخيرة الأميركية والبريطانية لـ"الحوثيين"، وقد أصدرت هيئة الملاحة الأميركية تعليماتها لسفنها التجارية بتجنب استخدام البحر الأحمر، والكثير من الدول الأخرى بدأت بالابتعاد عن الملاحة التجارية فيه.

تعلم الولايات المتحدة أن إسرائيل فشلت في القضاء على الفصائل المقاتلة، وهي لذلك تسعى لتحقيق انتصار سياسي لإسرائيل عجزت آلتها العسكرية عن تحقيقه، رغم أنها حولت غزة لمدينة أشباح غير قابلة للحياة

ثم إن المواجهات بين إسرائيل و"حزب الله" تشتد، وهناك اتجاه داخل الحكومة الإسرائيلية يقوده يوآف غالانت وزير الدفاع الإسرائيلي يدفع باتجاه إعلان الحرب على "حزب الله"، وقد ينجح هذا الاتجاه في مسعاه، خصوصا وأن سكان شمال إسرائيل يطالبون بتحييد "حزب الله" قبل القبول بالعودة لمنازلهم التي رحلوا منها منذ ثلاثة أشهر. ومما لا شك فيه أن رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو ومعه غالانت معنيان بإطالة الحرب بالقدر الممكن على أمل تحقيق انتصار واضح فيها يعيد لهما جزءا من ثقة الجمهور الإسرائيلي التي خسراها بعد هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
وبالتأكيد، فإن الولايات المتحدة ترى وتراقب ما نراه وتعرفه، وهي لذلك تريد من السلطة الفلسطينية والدول العربية التوجه لغزة للفصل بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية المقاتلة. بكلمات أخرى، تعلم الولايات المتحدة أن إسرائيل فشلت في القضاء على الفصائل المقاتلة، وهي لذلك تسعى لتحقيق انتصار سياسي لإسرائيل عجزت آلتها العسكرية عن تحقيقه، رغم أنها حولت غزة لمدينة أشباح غير قابلة للحياة. 
والولايات المتحدة تريد تحقيق هذا الانتصار الوهمي لإسرائيل بطريقتين: 
الأول: إخراج إسرائيل من رمال غزة المتحركة والتي بدأت تغرق فيها دون أن يبدو ذلك، كما لو أن إسرائيل خسرت الحرب في غزة، وإظهارها بمظهر المنتصر، بدليل عودة السلطة الفلسطينية لغزة حتى لو كان ذلك بحماية عربية عن قرب وإسرائيلية عن بعد. وتحقيق هذا الهدف يعني نهاية الحرب في غزة وبالتالي منع التصعيد الإقليمي الذي لا تريد له أميركا أن يحدث حتى لا تتورط هي أكثر في المنطقة، لأن هذا آخر ما تريده أميركا.
والثاني: تحويل السلطة الفلسطينية وبدعم عربي إلى جيش وظيفته الأساسية حماية أمن إسرائيل والاشتباك نيابة عنها مع الفصائل الفلسطينية المقاتلة، وبالتالي تحميل العرب ما لا تريد إسرائيل أن تتحمله.
وهنا نتساءل: ما مصلحة السلطة الفلسطينية والعربية في قبول المشروع الأميركي؟
لا يبدو أن هناك مصلحة لهم في مشروع مثل هذا، والأهم منه عدم وجود مصلحة للشعب الفلسطيني فيه.
إن الحديث عن إصلاح السلطة الفلسطينية ودعمها حديث ممجوج، مكرر، ويخفي الهدف الحقيقي منه، وهو خلق سلطة فلسطينية تابعة كليا لدولة الاحتلال.

بعد عشرين عاما على محاولة الجنرال دايتون خلق "الفلسطيني الجديد" الذي يقبل بالاحتلال ويتعايش معه، تبين أن كل ذلك كان مجرد وهم

الحقيقة أن الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا، والأمم المتحدة تشرف على إصلاح السلطة منذ عام 2002، منذ أعلنوا عن تشكيل "الرباعية الدولية" وقد افتتحوا لها مكتبا في القدس الشرقية، ترأسه بين الأعوام 2007 و2015 توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، ولا يزال مكتب "الرباعية" يعمل في القدس الشرقية رغم أنه بلا رئيس. 

Reuters
جنود اسرائيليون في غزة في صورة وزعها الجيش الاسرائيلي في 19 يناير

ولقد قامت الرباعية الدولية وتحت إشراف الجنرال الأميركي كيث دايتون بتوظيف عشرات الآلاف من الفلسطينيين في أجهزة الأمن وتدريبهم وتسليحهم بموافقة إسرائيل، وقامت بإعادة هيكلة أجهزة الأمن الفلسطينية، وبناء على خططها أصبحت أكثر من 35 في المئة من موازنة السلطة يذهب للأجهزة الأمنية الفلسطينية. 
لكن بعد عشرين عاما على محاولة الجنرال دايتون خلق "الفلسطيني الجديد" الذي يقبل بالاحتلال ويتعايش معه، تبين أن كل ذلك كان مجرد وهم، وفشلت السلطة الفلسطينية في الوظيفة التي أرادتها أميركا وإسرائيل لها وهي القضاء على الفصائل الفلسطينية المقاتلة في الضفة الغربية. 
واليوم كما يعلم الجميع تقوم إسرائيل بنشر جيشها في الضفة وتقتحم القرى والمخيمات والمدن الفلسطينية فيها يوميا للاشتباك مع الفصائل المقاتلة بنفسها، مما أدى لمقتل أكثر من 370 فلسطينيا في الضفة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. نحن لا نتحدث عن غزة هنا. الأهم أن الجيش الذي شكله دايتون يقبع في مقراته، فلا هو قادر على حماية الفلسطينيين من جرائم الاحتلال لأنه لم يُصمم لذلك، ولا هو يستطيع حماية إسرائيل حتى لا يظهر أمام شعبه كجيش شبيه بجيش أنطوان لحد في لبنان.
باختصار، ما تريده أميركا سبق أن قامت به، وتبين فشله، وكل ما جرى فعلا هو إعطاء وقت للاحتلال لتكثيف استيطانه في الضفة وتكريس الأمر الواقع فيها وهو تأبيد الاحتلال إلى أن يتمكن من طرد الفلسطينيين منها.

ما تعرضه الإدارة الأميركية على العرب وعلى لسان رئيس مجلسها للأمن القومي جيك سوليفان ووزير خارجيتها أنتوني بلينكن هو بضاعة مزجاة... التطبيع والأمن في نظرهما سابق لعملية سلام قد لا تنتهي أبدا

إن الحديث عن فساد السلطة الفلسطينية ومراجعة المناهج المدرسية هو أيضا كلام فيه مغالطات؛ فالفساد هو الناتج الطبيعي لسلطة تم تجريدها من أي مشروع سياسي- وهو مبرر وجودها- وتحويلها لسلطة أمنية. والمناهج التعليمية أعيدت صياغتها بإشراف الاتحاد الأوروبي ورقابته. فوق ذلك، لا توجد أي مناهج أكاديمية في العالم قادرة على تحويل شعب إلى مُحب لقاتله وقاتل أطفاله وهادم بيوته وسارق أراضيه. هذه فنتازيا أميركية ربما تحدث في أفلام هوليوود فقط لا على أرض الواقع.
نأتي للشق الأهم في هذه المقالة، وهو أن حجم جرائم الاحتلال المستمرة في غزة أكبر من أن توصف بالكلمات، ويكفي القول إنها تعادل للفلسطينيين والعرب نكبة عام 1948، إن لم تكن أكبر من حيث الدمار الذي لحق بالشعب الفلسطيني وأعداد الضحايا والمفقودين.
إن ما تعرضه الإدارة الأميركية على العرب وعلى لسان رئيس مجلسها للأمن القومي جيك سوليفان ووزير خارجيتها أنتوني بلينكن هو بضاعة مزجاة. إنهما يتحدثان عن التطبيع والأمن لإسرائيل مقابل عملية سلام تؤدي لدولة فلسطينية. التطبيع والأمن في نظرهما سابق لعملية سلام قد لا تنتهي أبدا مثل "اتفاق أوسلو" الذي بدأ منذ 24 عاما ولم يؤد إلا إلى 6 حروب خلال السنوات الخمس عشرة الماضية.
إن ترتيب الأوليات من قبل الإدارة الأميركية يكشف ذلك، ويكشف العجز عن رؤية أن المنطقة برمتها قد أصبحت على فوهة بركان. اليوم مخاطر توسع الصراع ليشمل منطقة البحر الأحمر والعراق وسوريا ولبنان كبيرة جدا، وتوسعها يعني أن لا أحد في المنطقة سيكون بمعزل عن تداعياتها.
لقد بينت هذه الحرب الظالمة عجز إسرائيل عن خوض حروب متعددة الجبهات، وحاجتها الدائمة للحماية الأميركية والغربية، وهو ما يعني أن استمرار الحال كما كان سابقا أصبح من المحال، وأن حل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي هو ضرورة حيوية لأمن المنطقة جميعها، كما كانت المملكة العربية السعودية تؤكد دائما.
إن مطالبة العرب بقبول الأجندة الأميركية كما هي، يعني إخضاع مصالحهم، ليس حتى للمصالح الوطنية الأميركية، ولكن لمصلحة إعادة انتخاب الرئيس جو بايدن في الانتخابات القادمة هذا العام، والذي لا يزال يأمل في تحقيق إنجاز سياسي يقدمه للناخبين على حساب مصالح الفلسطينيين والعرب. 
لقد علق السفير السعودي في المملكة المتحدة، الأمير خالد بن بندر بن سلطان، على المقترحات الأميركية في حديثة مع "بي بي سي" في التاسع من هذا الشهر، قائلا: "إذا قلنا نحن إننا كنا أقرب إلى التطبيع مع إسرائيل، فإن هذا يعني أننا كنا أقرب إلى قيام دولة فلسطينية"، مضيفا أن المملكة العربية السعودية "لا يمكنها العيش مع إسرائيل دون قيام دولة فلسطينية مستقلة"، وأن "مصالح الفلسطينيين هي الأهم بالنسبة للمملكة".

استمرار الحال كما كان سابقا أصبح من المحال، وحل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي ضرورة حيوية لأمن المنطقة جميعها، كما كانت المملكة العربية السعودية تؤكد دائما

وعليه، وبحسب رأي كاتب هذه المقالة الذي يمثل نفسه حصرا، فإن ما يبدو خارطة طريق مقبولة نحو تهدئة شاملة ونزع فتيل الانفجار لا بد أن يشمل بنودا شبيهة بالتالي:

أولا: أن تقبل إسرائيل والولايات المتحدة بالتعامل مع حكومة وحدة وطنية يختارها الشعب الفلسطيني بإرادته الحرة وبالتوافق بين فئاته المختلفة عليها.

AFP
وزير الخارجية الاميركي انتوني بلينكن لدى وصوله الى العلا في المملكة العربية السعودية في 8 يناير

ثانيا: قبول حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية وإسرائيل بوقف لإطلاق النار في غزة والضفة لمدة ثلاث سنوات.

ثالثا: تدير حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية غزة والضفة ضمن مشروع سياسي شامل لإنهاء الاحتلال وبناء دولة فلسطينية مستقلة.

رابعا: تعلن الولايات المتحدة اعترافها بالدولة الفلسطينية المستقلة على الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل عام 1967.

خامسا: يصدر مجلس الأمن الدولي قرارا يعترف فيه بالدولة الفلسطينية على حدود ما قبل الرابع من يونيو/حزيران 1967 على أن يتضمن القرار إلزاما لإسرائيل بوقف الاستيطان، وإطارا للمفاوضات بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.

سادسا: أن يتضمن إطار المفاوضات مدة زمنية لا تزيد على ثلاث سنوات لإنهائها، وأن يتضمن مرجعية هي محكمة العدل الدولية لحل أي خلاف في حال عدم تمكن الطرفين من حل الخلافات بينهما.

سابعا: تكون المواضيع التي سيتم التفاوض عليها هي: مستقبل المستوطنات الموجودة في الضفة بما فيها القدس الشرقية. ومسألة اللاجئين الفلسطينيين. والضمانات الأمنية التي تريدها إسرائيل.

ثامنا: يقبل العرب ومعهم دول إسلامية أخرى بمساعدة الدولة الفلسطينية لتنفيذ الضمانات الأمنية المترتبة عليها.

تاسعا: يتم الاعتراف بإسرائيل وتبادل السفراء معها.

عاشرا: لا يتم اجتزاء هذه المبادرة، أو شبيهة بها في خطوطها الأساسية التي تضمن حقوق الجانب العربي والفلسطيني، ويتم قبولها بتسلسلها الزمني وبكامل بنودها والتي تجعل الحصان قبل العربة وليس العكس.

وكبادرة حسن نية من الجانب الآخر، فإنه يقبل بعلاقات تجارية محدودة مع إسرائيل فور إعلان الولايات المتحدة اعترافها بالدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران، وصدور قرار مجلس الأمن بشأن إطار المفاوضات ومدته الزمنية، على أن يتم الاعتراف بإسرائيل وتبادل السفراء فور قيام الدولة الفلسطينية المستقلة.  

إذا أرادت الولايات المتحدة وإسرائيل طريق السلام، فهذا هو طريق السلام، وإذا أرادوا الاحتلال والاستيطان والاستمرار في ارتكاب جرائم الحرب في غزة والضفة، فهم وحدهم من يتحمل المسؤولية، والعرب لن يكونوا أبدا جسرا لتصفية القضية الفلسطينية، ولن ينحازوا إلا إلى جانب الشعب الفلسطيني الذي يقبع تحت نير الاحتلال، وإلى جانب حقوقه التاريخية التي يعترف بها العالم أجمع وتنكرها عليهم إسرائيل. 

font change

مقالات ذات صلة