في ظل الواقع الموّار بالحروب والصراعات والأزمات والكوارث، تفقد النفس السكينة، وتمتلئ بمشاعر الاغتراب وتصدّع الثقة والقلق الوجودي، المهدّد بالفعل، وغالبا ما يكون الملاذ الروحي هو الحنين إلى أزمنة مضت، باتت مثل ذكرى عن فسحة روحية نفتقدها اليوم، كان العالم فيها مغايرا لما هي عليه البشرية في لحظتها الراهنة، خاصة بعد انفتاح بعضه على بعض، وسيطرة الصورة والأخبار التي تصل أسرع من البرق. صرنا أسرى أدوات الصناعة الرقمية والثقافة الرقمية، وبتنا نحنّ بشيء من الشجن إلى سنوات الحرب الباردة، خاصة لإحدى أهم أدواتها: القوة الناعمة، التي أمطرت على شعوب الأرض منجزا ثقافيّا إبداعيّا نفتقده اليوم، حتى لو كانت وسيلة في الهيمنة على العالم، وارتباطها بأجهزة الاستخبارات التي عملت بدأب على متابعة النشاط الثقافي في قطبي الحرب الباردة، عندما كانت السلطات في أميركا تدرك التفوق الثقافي الروسي وترى في الحرب الباردة صراعا صامتا بوسائل سلمية، إنما له تأثير فعّال، لما للثقافة من دور في إحياء المجتمعات وتنميتها وتوجيهها وتأثيرها في الوعي العام الذي ينجم عنه رأي عام، وتعرف كيف أن الدعاية وسيلة تأتي ثمارها في إضعاف المواقف المعادية، وهكذا ازدهرت الحرب الثقافية.
القوة الناعمة الروسية بين عهدين
كانت أعمال دور نشر سوفياتية رائجة، دار "مير للنشر" التي أنشئت خلال العهد السوفياتي، ترجمت وأصدرت مطبوعات باللغة العربية نقلا عن اللغة الروسية. عرفت بترجمة الكتب ذات التوجه الشيوعي ونشرها، إضافة إلى كتب في مجالات عدة أخرى، فكانت بذلك من الأسلحة المهمة للاتحاد السوفييتي. نقلت إلى العربية العديد من أمهات الكتب الروسية وروائع الأدب الروسي مثل أعمال تولستوي وغوغول. لا تزال هذه العلامة الفارقة حاضرة في بالي مع عناوين كتب كثيرة كانت مكتبة والدي تزخر بها، ثم مكتبتي الخاصة التي بدأت متواضعة بشرائي كتبا تخصني من معارض الكتب التي كانت تقام في مدينتي اللاذقية، أو من مكتباتها. لم أكن أهتم في البداية بمعرفة مكانة هذه الدار، لكنني أعرف أن كتبها كانت متوفرة بيسر ورائجة، ولا يزال في بالي كتاب يحمل عنوان "الفيزياء المسلّية" من منشوراتها، وكتاب مسائل في الرياضيات العالية.