طهران تتلهف للعودة الى "أضواء المسرح"... ولو نوويا

يفسر ذلك جزئيا تصريحات بعض ضباط "الحرس الثوري" عن ان "طوفان الاقصى" هي في حقيقة الامر جرت بإيعاز ايراني للانتقام من اغتيال قاسم سليماني. ذلك ان الايرانيين يبحثون عن دور بعد النتائج المحدودة التي رجعت بها مشاركة "حزب الله" في المعارك من جنوب لبنان على الرغم من الخسائر الفادحة التي مني بها ناهيك عن اطلاق "الحشد الشعبي" العراقي بعض المسيرات على اسرائيل، وتخبط موقفها السياسي بين الاصرار على نفي اية صلة بالهجوم الدموي على اسرائيل ومحاولة جني الثمار السياسية للموقف متزايد التوتر.

الحرب التي شنها الحوثيون على السفن العابرة للبحر الاحمر، اضفت المزيد من التعقيد على الجهد الدبلوماسي الايراني حيث لم يظهر اي اهتمام بمفاتحة غربية للإيرانيين لاقناع الجانب الحوثي بوقف الهجمات، بل ذهب الاميركيون الى تشكيل تحالف عسكري يتولى توجيه ضربات الى المواقع الحوثية. واذا كان الغرق في الرمال اليمنية احتمال وارد امام الاميركيين، فإن الايرانيين ليسوا أسياد اللعبة هناك وثمة عشرات العوامل والمعطيات التي تجعل استثمارهم في القتال هناك ضئيل النتائج.

مهما يكن من أمر، تبقى علامة الاستفهام الكبيرة معلقة فوق القصف الايراني لباكستان. إذ ان المسوغ الذي طرحه الايرانيون، اي هجوم انفصاليي "جيش العدل" على راسك، وقع قبل شهر ونيف. وليس من توتر يذكر يسود علاقات طهران واسلام اباد في هذه المرحلة. أما مسألة الانفصاليين البالوش فمشتركة بين البلدين حيث تشكو باكستان ايضا من تمركز جماعات بالوشية انفصالية في الاراضي الايرانية على ما اوضح المتحدثون الرسميون باسم وزراة الخارجية والجيش الباكستانيين.

ربما لا ترجع الحوادث المذكورة كلها الى الحرب في غزة، فامتداد التوتر الى الشواطئ الهندية وريف بالوشستان، قد لا يجد طريقا مباشرا الى الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي. لكنه يرتبط، من دون شك، بما يجري في ايران.

ملاحظات عدة يمكن ادراجها هنا. اولها ان ايران قررت استعادة المهمات التي كانت قد اسندتها الى وكلائها بعدما اضعف هذا النهج من التوكيل صورة طهران كقوة تمسك مصالحها بقبضة من حديد ولا تختبئ وراء "ابي تقوى" هنا و"نجباء" هناك. بل انها تضرب اعداءها بصواريخها وتعلن ذلك من دون وجل. ولا تتهرب من دفع الثمن كما حصل بعد قصف الطيران الحربي الباكستاني لبعض الاهداف على اراضيها.

الملاحظة الثانية، هي ان ايران في حالة انزعاج شديد. فتتهم سلطات اقليم كردستان بعدم الالتزام بالاتفاق على ابعاد الاحزاب الكردية الايرانية عن الحدود المشتركة في الوقت الذي تقول ان "الموساد" يقيم مقرات كبيرة في اربيل. وتصر على ادراج اسم الحزب التركستاني في بيانها عن قصف مواقع "داعش خراسان" في سوريا، وكأنها تريد ايصال رسالة ما الى الصين عن انها تؤدي خدمة لها بضربها الانفصاليين الايغور.

الملاحظة الثالثة تتعلق بباكستان، فهذه اضافة الى انها جارة قديمة وودودة، على ما عبرت البيانات الباكستانية التي تبدو شديدة الهدوء على الرغم من القصف الايراني غير المبرر، هي دولة نووية ومن ابرز اصدقاء الصين وتؤدي مهمات كبيرة ضمن مبادرة "الحزام والطريق". عليه يبدو القصف الايراني للاراضي الباكستانية متعدد الاسباب والمستويات.

الاقل اهمية هو ضرب الانفصاليين البالوش، بلا ريب. ويتعين النظر الى السلوك الايراني من زاوية تقييم حالة الضيق والتخبط والبحث في الاوراق القديمة لاستعادة الاهتمام الدولي بعدما خرجت فقدت طهران العديد من الاوراق التي كانت تستخدمها للاستحواذ على "أضواء المسرح" اذا جاز التعبير.

احدى اهم تلك الاوراق هي البرنامج النووي الايراني. لقد انتهى الزمن الذي كانت فيه ادارة جو بايدن تسعى الى تحقيق اختراق يفيدها في تسويق نفسها كصانع سلام عالمي. لقد انخرطت حتى العنق في الحرب الاوكرانية ثم دعمت اسرائيل بلا حدود في تدميرها الوحشي لغزة. ولم يساعد سحب الترخيص الامني لمسؤول الملف الايراني في الادارة، روب مالي موقف الولايات المتحدة حيث استخدم الحادث لتوجيه اتهامات الى بايدن بالمجازفة بالامن القومي الاميركي في سبيل تحقيق انجاز بالاتفاق مع ايران.

 اذن، خرج الملف النووي من التداول وخسرت ايران عنصر جذب. واخذا في الاعتبار الطريقة المركبة التي تهيمن على اسلوب التفكير الايراني، لا يمكن اسقاط امكان حضور فكرة احياء الملف النووي الايراني من المدخل الباكستاني. فاسلام اباد التي خصصت سلاحها النووي لردع الهند، النووية بدورها، قد لا تبدو عدوا متربصا بإيران، لكن يمكن اختراع العديد من المعطيات التي تدفع الى التوتر بين باكستان وايران: انفصاليون بالوشتسان. تأييد سلطة اسلام اباد لطالبان في افغانستان مقابل عداء طهران لها بسبب الخلافات المائية والحصص من مياه الانهر. ثم هناك الانقسام المذهبي بين السنة والشيعة في البلدين الكبيرين. صحيح ان هناك اقلية شيعية كبيرة في باكستان لكنها تتعرض دائما الى هجمات متطرفين من الجماعات السنية المسلحة والى تفجيرات شبه دورية.

لقائل ان يرى مستوى عال من الخيال واللامعقول في الفقرة الاخيرة، لكن ما هو المعقول في حروب وسياسات عالم اليوم؟