شتيفان فايدنر: لماذا لا يفهم الغرب أنه ليس العالم كله؟https://www.majalla.com/node/308641/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%B4%D8%AA%D9%8A%D9%81%D8%A7%D9%86-%D9%81%D8%A7%D9%8A%D8%AF%D9%86%D8%B1-%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D9%84%D8%A7-%D9%8A%D9%81%D9%87%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D8%A3%D9%86%D9%87-%D9%84%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D9%83%D9%84%D9%87%D8%9F
تتناول أبحاث ومؤلفات الكاتب الألماني شتيفان فايدنر بالتحليل والنقد النهج السياسي والثقافي الغربي. فايدنر مستعرب، ومن أبرز الدارسين الألمان المعاصرين للخيال الشعري والجماليات الإسلامية في اللغة العربية. درس الفلسفة في جامعات ألمانية وجامعة بيركلي الأميركية. وترجم إلى الألمانية منتخبات من الشعر العربي الكلاسيكي القديم، منها "ترجمان الأشواق" للشيخ محيي الدين ابن عربي. ولرواد الحداثة الشعرية العربية ترجم لبدر شاكر السيّاب، وأدونيس، ومحمود درويش. ودرَّس جماليات الفن الشعري والترجمة في جامعتي برلين الحرة وبون ومونستر.
ولد فايدنر في مدينة كولن الألمانية سنة 1967. وفي سن مبكرة شُغِف بثقافات الشرق، وبقصص ألف ليلة وليلة وجماليات الخط العربي والفنون الإسلامية. تعلم اللغة العربية في معاهد ألمانية، ثم في دمشق، حيث أقام وصادق بعضا من المثقفين والكتّاب السوريين، وكذلك العراقيين في ألمانيا. وقد أقام أيضا في بيروت والقاهرة، وزار كباحث في الجماليات وفنون العمارة مدنا إسلامية في آسيا الوسطى، كلاهور وأصفهان ودلهي، إضافة إلى زيارته أفغانستان. للمغرب العربي حضوره في رحلاته وإقامته وتثاقفه، فخصّ مدينة فاس بكتاب يوميات عنوانه "فاس: الطواف سبعا"، تُرجم إلى العربية سنة 2019. وأشرف فايدنر على إعداد مؤلف عن "نماذج من أدب الشرق" في عنوان "ألف كتاب وكتاب".
لكن حادثة 11 سبتمبر/أيلول 2001، والحرب الدولية على الإرهاب، والمنعطف الكبير الذي ألحقاه بالسياسة الدولية، وطلب الصحافة ومراكز البحث الألمانية منه ومن أمثاله من المستعربين، الكتابة في الشؤون الثقافة السياسية والاجتماعية في العالمين العربي والإسلامي – هذا كله حمله على صرف شطر من اهتمامه إلى مراجعة النهج السياسي والثقافي الغربي والتبصُّر فيه ونقده. وذلك في ضوء ضرورة النظر إلى العالم من منظار حقيقته وواقعه الحي، أي تنوع ثقافاته وأشكال التفكير وأنماط العيش فيه. وهو تنوع يغني الحياة والعالم ويجعلهما أرحب وأكثر عدالة وسلاما.
يمكن القول إن إسرائيل - على منوال أميركا والغرب في أفغانستان والعراق وأوكرانيا - لا تعترف قط بهزائمها
إلى جانب عمله رئيسا لتحرير مجلة "فكر وفن" ما بين العام 2001 و2016، الصادرة بالألمانية والإنكليزية والعربية والفارسية، بهدف المساهمة في التثاقف والتبادل الثقافي، ألّف فايدنر وأصدر كتبا عدة، تُرجم معظمها إلى العربية:، "خطاب ضد الإسلاموفوبيا"، "الأسئلة الخفية"، "ما وراء الغرب: نحو فكر كوزموبوليتي"، وأخيرا "غراوند زيرو" (أرض الصفر): 11 سبتمبر وولادة الحاضر".
وفيما لا تزال ألمانيا وسائر الدول الأوروبية تعيش ارتدادات عملية "طوفان الأقصى"، والحرب الإسرائيلية الثأرية في غزة، التقت "المجلة" الباحث والمستعرب شتيفان فايدنر في مدينة كولن الألمانية، وحاورته في حال العالم والسياسات الدولية وفي بعض شؤون العالم العربي الثقافية.
الحرب وقوتها الرمزية
يشخِّص كتابك "غراوند زيرو" (أرض الصفر) حال العالم ما بعد 11 سبتمبر/ أيلول، وانطلاق الحرب الدولية على الإرهاب التي تصفها بـ"الكارثية" وتعتبرها حربَ إفناء عدو يُعدّ "الشر المطلق". وترى أن ذلك يندر تحقيقه لـ"يستمر الصراع إلى الأبد". وأنت تلح على مقولة تعتبر أن ذلك شكّل منعطفا كبيرا في السياسة الدولية وغيّر وجه العالم. ثم إنك تستشهد بالمفكر الفرنسي جان بوديار للقول إن عملية ابن لادن انطوت على طاقة وفعل "رمزيين". لكن في المقابل ألا ترى أن الرد الأميركي عليها جاء عمليا وحربيا - احتلال أفغانستان، ثم العراق - أي خاليا من الرموز؟
نعم، انطوت عملية 11 سبتمبر/أيلول على طاقة ودلالة رمزيتين، إضافة إلى كونها حدثا إعلاميا، جرى تصويره وبثّه على نحو مباشر في الفضاء الإعلامي العالمي. لقد أذهل الحدث المفاجئ والكبير أميركا والعالم. وتكمن قوته الرمزية في إرادته القول إنه جلب العار للولايات المتحدة الأميركية. فهي - بصفتها القوة العالمية الأولى في العالم، بعد انهيار المعسكر الشرقي السوفياتي قبل 10 سنوات (1991) وانتهاء الحرب الباردة التي انتصرت فيها أميركا والغرب - فشلت في حماية نفسها من فتيان إسلامويين إرهابيين دمروا برجي التجارة العالمي في نيويورك، رمز القوة العالمية الأولى، وقتلوا ألفين وسبعمئة من المدنيين.
لكنني أظن في المقابل، أن معظم الحروب التي خاضتها أميركا بعد 11 سبتمبر/ أيلول 2001، لم تخلُ من محاولاتها أن تنطوي على أبعاد رمزية، إضافة إلى كونها أحداثا إعلامية أيضا. فالصور التي بُثّت وجرى تداولها لسجناء غونتانامو مثلا، بعد الحرب على أفغانستان واحتلالها، لم تخلُ من الرمزية والمشهدية الإعلامية. وهذا ما انطوت عليه ألوان الثياب البرتقالية والحمراء الفاقعة التي أُلبست للأسرى في سجن غونتانامو، كناية عن المصير المُذِلّ والمهين للإرهابيين الذين أرادوا تدمير رمز القوة العالمية الأميركية. وهذا ما انطوت عليه أيضا صور عراقيين تسرّبت من سجن أبو غريب بعد احتلال العراق.
ولربما كانت الرموز أقوى حضورا في الحرب الأميركية على العراق واحتلاله في العام 2003، إلى جانب الحضور المشهدي الآني والمباشر لتلك الحرب التي بثت صورها الفضائيات التلفزيونية. وأرجّح أن أميركا حاولت قولا رمزيا في احتلالها بغداد. فإلى جانب بث صور تدمير الجيش الأميركي نُصُب الطاغية العراقي صدام حسين في قلبها، أرادت القول إنها احتلت العاصمة العالمية للبلاد الإسلامية في أوج ازدهارها في عهدها الكلاسيكي الوسيط. أي بغداد هارون الرشيد وأبي نؤاس وألف ليلة وليلة، عندما كانت عاصمة العالم، مثل نيويورك اليوم.
لكنني أظن أن الأهداف السياسية الأميركية المعلنة والمباشرة لاحتلال العراق - أي زعم إرساء نموذج للديموقراطية في الشرق الأوسط، واجتثاث الدول المارقة والديكتاتورية والإرهاب - طغت على كثافة البعد الرمزي والإعلامي للحدث، فاختفى هذان البعدان أو تلاشيا خلف الضرورة والهدف السياسيين المذكورين للحرب.
تلاشي البعد الرمزي للحرب، تبعته استحالة إرساء ديموقراطية في أي من بلاد العالم بواسطة الحرب والاحتلال اللذين دمرا العراق، فنشبت فيه حرب أهلية، ثم انسحبت منه أميركا، فسيطرت عليه إيران، وانبعث الإرهاب بقوة غير مسبوقة في الشرق الأوسط والعالم.
إذا انتقلنا إلى عملية "طوفان الأقصى" وردّ إسرائيل عليها، ألا نجد شبها ما بينها وبين عملية 11/ 9 والردّ الأميركي عليها؟
بالطبع يمكن المقارنة بين عملية "القاعدة" في 11/9 وعملية "حماس" في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. فعبارة "طوفان الأقصى" كاملة الأوصاف في حمولتها الرمزية الدينية والأسطورية. والأرجح أن توقيت "حماس" عمليتها في 7 أكتوبر يحمل في طياته التذكير بحرب عبور قناة السويس في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973.
لكن من الضروري التنبيه إلى أن الدلالة الرمزية للحوادث والتسميات شيء، والقيمة العسكرية للعمليات الإرهابية شيء آخر مختلف تماما. فليس من قيمة عسكرية لعملية 11 سبتمبر ولا لعملية "حماس" في 7 أكتوبر. فجدواهما العسكرية تنطويان في النهارين اللذين يتلوان كلا منهما، حين يبدأ الرد العسكري عليهما مخلّفا آثارا وتبعات كبرى.
وعلى الرغم من الكثافة الرمزية في عملية "طوفان الأقصى" - اهتزاز صورة إسرائيل كدولة حصينة عسكريا، يستحيل اختراقها وقهرها - لم تعترف إسرائيل بالتركيز والتشديد على المعنى الثأري والانتقامي من المدنيين في غزة، واقتلاع الباقين وطردهم من ديارهم، ولا على رمزية ردّها: ترميم صورتها وإعادتها إلى سابق عهدها بوصفها دولة قلعة قوية لا تُقهر وغير قابلة للاختراق. وهي بدلا من ذلك أعلنت فقط أنها تحارب الإرهاب المتمثل بـ"حماس" التي تريد اجتثاثها من غزة. وهذا يعني أنها لا تعترف بالهزيمة الرمزية والمعنوية. وفي وجه عام يمكن القول إن إسرائيل - نسجا على منوال أميركا والغرب في أفغانستان والعراق وأوكرانيا - لا تعترف قط بهزائمها.
روسيا ما كانت لتتجرّأ على اجتياح أوكرانيا، لولا الهزيمة الأميركية في أفغانستان، وانتصار "طالبان" هناك
السيّاب وأدونيس ودرويش
أشرتَ في كتابك "غراوند زيرو" إلى أن ما حدث في 11/9 وبعده، نقلك من اهتماماتك الثقافية، الفنية والجمالية بالشعر العربي، إلى الانغماس في مشاغل واهتمامات أخرى، سياسية. كيف حصل ذلك الانتقال؟
كنتُ قد درستُ الفلسفة والأدب المقارن، إلى جانب اللغة العربية والإنتاج الثقافي والجماليات، متعاونا مع أصدقائي المثقفين والكتّاب العراقيين وسواهم من العرب في ألمانيا. وربما كان من الطبيعي أن أهتم بالحدث العالمي الكبير في 11 سبتمبر وتداعياته. وتزايد اهتمامي بعدما رحتُ أُسأل عن العالم العربي، بصفتي على معرفة بثقافته، وبعدد من شعرائه ومثقفيه، فيما كان ذلك الحدث يغيّر صورة العرب في ألمانيا وأوروبا، وكذلك أشكال تلقي الأوروبيين النتاج الثقافي العربي.
في التسعينات تزايدت الترجمات من العربية إلى الألمانية. وساهمتُ مع زملاء عرب وألمان في تنامي تلك الترجمات الأدبية، التي كان دافعها ثقافيا وجماليا. لكن 11 سبتمبر وتبعاته أزاحا الاهتمام الثقافي والجمالي بالأدب العربي جانبا في أوروبا، لصالح الاهتمام به لأسباب معرفية، سياسية وسوسيولوجية وأنثربولوجية، وحتى جيوسياسية. وهذا يعني قسر النظر إلى الأدب كوثيقة اجتماعية فقط. أنا وأصدقائي رأينا في ذلك التحوّل تراجعا عن استقبال الأدب العربي، وتلقيه وقراءته، على نحو فنّي وجمالي، على الرغم من تزايد الطلب على ترجمة الأعمال الأدبية العربية في ألمانيا وأوروبا بعد 11 سبتمبر/ أيلول 2001.
كنت قد ترجمت منتخبات من شعر بدر شاكر السيّاب وأدونيس ومحمود درويش إلى الألمانية. دعني أسألك عن نظرتك إلى هؤلاء الشعراء الثلاثة؟
كتبتُ عن شعر أدونيس بحثا جامعيا لشهادة ماجستير، عنوانه "الشوق إلى إلهٍ جديد". ورأيت في بحثي ذاك أن لدى أدونيس مفهوما أو برنامجا ثقافيا شاملا للشعر. فشعره ثقافي ويتميّز بكثافة لغوية ورمزية معقّدة، تخلط بين تأثّره بالحداثة الفرنسية واطلاعه الواسع على التراث العربي الإسلامي. وهو يضفي على الشعر طابعا ودورا رساليين ثقافيين.
هذا كله على خلاف شعر بدر شاكر السيّاب الذي يطلع من الأرض والطبيعة ونبض الحياة، وينساب انسياب الماء بتلقائيته ومعانقته أشياء العالم بغنائية الحنين إلى الأرض والوطن والثورة، بلا أي برنامج نظري للشعر. لغة السيّاب الشعرية، على الرغم من استخدامه الأسطورة والرموز فيها، تظل على انسيابها الجمالي التلقائي المتدفق. فالسيّاب شاعر في الدرجة الأولى والأخيرة وثقافته كامنة في شعره السيّال. لذا يمكننا القول إنه شاعر فحسب، بينما أدونيس فيلسوف في شعره المليء بمفاهيم ثقافية وفلسفية.
أما محمود درويش فقد يكون أقرب إلى السيّاب في شعره الذي يتضمن برنامجا إنسانيا، تحرُّريا وسياسيا ووطنيا، اسمه فلسطين. لكن شعر دوريش تطوّر وتغيّر على نحو كبير. فهو بدأ بسيطا ولطيفا، كأنه يكتب أغاني سياسية شعبية، لكنه قفز قفزات نوعية جمالية إلى كتابة شعر رمزي يتلاعب بالأساطير والرموز، ويمنحها أبعادا ودلالات جديدة. هذا من دون أن يغادر شعره روحه الإنسانية، وكونه شعرا لكل الناس.
بين الستينات والتسعينات
كيف تغيّرت صورة العالم والأدب العربيّين في ألمانيا بعد 11 سبتمبر/ أيلول 2001؟
عاش العالم في التسعينات جوا من الانفتاح، بعد انتهاء الحرب الباردة، وسقوط الستار الحديدي والاتحاد السوفياتي وجدار برلين. في هذا المناخ من التفاؤل والارتياح نشط التبادل الثقافي ونشطت ترجمات الأدب العربي في أوروبا. وكانت معاهدة السلام بين إسرائيل ومصر قد أُنجزت، وبدأت مفاوضات أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في عهد إسحق رابين. في تلك الحقبة كتبتُ في صحف ألمانية دراسات ثقافية عن الأدب والشعر العربيّين، وقدّمت ترجماتي الشعرية لدور نشر ألمانية، على الرغم من أن الشعر فن لا يحظى إلا باهتمام نخبة ثقافية واقتصادية ضيقة، لكنها فاعلة ومهمة. فوفرة التسعينات الاقتصادية ساعدت في حركة الترجمات ونشرها، إلى جانب إقامة ندوات وزيارات وإقامات ثقافية، أدبية وكتابية متبادلة، بين كتّاب عرب وألمان.
هذه الموجة استمرت بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001، لكن مضمونها ودوافعها ووجهتها تغيّرت، فتضاءل بعدها الثقافي والفني والجمالي، وغلب عليها البعد السوسيو-ثقافي والسياسي. أما صورة العالم العربي في ألمانيا وأوروبا فبدأ يشوبها التشوش والحذر، وانكمش الانفتاح والتفاؤل وتراجعا في ظل الخوف من الإرهاب والحرب الدولية على الإرهاب.
في لبنان، مثلا، نقارن ونجد ظلال تشابه بين تفاؤل خروج البلاد من الحروب الأهلية في التسعينات، وبين حيوية وتفاؤل الستينات وحداثتها الثقافية. هل تصح المقارنة بين هذين العقدين على الصعيد الأوروبي، حين نفكر بمايو/أيار 1968 الفرنسي وبربيع براغ، وبزوال الستار الحديدي السوفياتي وجدار برلين في مطلع التسعينات؟
قد تصح المقارنة. لكن التسعينات كانت جميلة والناس كانوا سعداء بأنفسهم، بينما كانت الستينات تضج بالطاقة والغضب وباندفاع حركة ونشاط فكريين إبداعيين جديدين، رائدين وجريئين في أوروبا. وهذا ما لم تعرفه التسعينات الشديدة التواضع في مجال الإبداع الفكري، على الرغم من أن الانفتاح والتبادل فيها كانا حقيقيين وجديين وجميلين. وعلى الرغم من المناخ السيئ الذي ظهر بعد 11 سبتمبر، استمر الانفتاح في بعض من وجوهه. وهو توسع أثناء "الربيع العربي". وأنا أرى أن ذلك خبا مع تفشّي وباء كورونا ونهاية الحرب في أفغانستان وهروب أميركا منها على نحوٍ مخزٍ، وعودة "طالبان" إلى الحكم في كابول.
الثقافة والحرب وعولمة الاقتصاد
تقول في "غراوند زيرو" إن الحرب على الإرهاب، هي حرب عالمية رابعة، بعد الأولى والثانية العالميتين، والحرب الباردة الثالثة. وإذا أضفنا سلسلة الحروب المتداخلة في الشرق الأوسط، وحرب روسيا على أوكرانيا، وأخيرا الحرب في غزة، ألا يبدو العالم في القرن العشرين وفي بدايات الألفية الثالثة، في حال حربٍ دائمة، ولو متقطعة؟
من جنوب العالم ومن الشرق الأوسط، ربما تبدو 11 سبتمبر والحرب الدولية على الإرهاب، وما سبقهما وتلاهما من حروب، حلقة متصلة من الحروب. وهذا لأن الشرق الأوسط خصوصا عاش ويعيش حروبا متداخلة: من حروب لبنان الأهلية المديدة، إلى الحروب بين العرب وإسرائيل وفي فلسطين، إلى الحرب الإيرانية - العراقية، وأخيرا الحرب في غزة. لكن 11 سبتمبر في الغرب كانت بداية حرب جديدة.
هناك مسألة أخرى في هذا المجال: لا يدرك الغرب أو لا يريد إدراك أنه لا يمثّل العالم كله، وأن السلام فيه ليس سلام العالم. لذا يفكر أن ما يحدث خارجه، إنما يحدث بعيدا في هوامش العالم، وليس سوى أزمات شعوب مضطربة ومتخلفة، غريبة وغامضة، ويصعب فهمها. لكن 11 سبتمبر نقلت الحرب إليه، ودشنت مفهوما جديدا للحرب: الحرب الدولية على الإرهاب الخفي وغير الواضح ولا المحدد بكيان سياسي وجغرافي، بل هو منظمات سرية، هيولية وغامضة، جرّت أميركا إلى الحرب على أفغانستان والعراق، فخسرتها.
في هذا السياق، أرجّح أن روسيا ما كانت لتتجرّأ على اجتياح أوكرانيا، لولا الهزيمة الأميركية في أفغانستان، وانتصار "طالبان" هناك.
التباعد بين شمال العالم وجنوبه يتفاقم لأسباب شتى، معظمها كامن في النظام العالمي الذي يتحكم بمصائر البشر
أنت تميّز بين عولمة الاقتصاد والإعلام والصور ووسائل التواصل الاجتماعي، وبين الانفتاح والتعددية والتبادل على الصعيد الثقافي وقبول التنوع في النظر إلى العالم وفي أنماط العيش. كيف تشرح هذا التمييز؟
العولمة الاقتصادية والإعلامية وفي وسائل التواصل، لا تعني قبول التنوّع والتعدد والتمايز الثقافي والاجتماعي، ولا تعني أيضا صوغ مفهوم عام وشامل ومتوازن للإنسانية وحقوق الإنسان، ومفهوم كونيّ للأخلاق. فالبشر في معظمهم يرغبون العولمة الاقتصادية والإعلامية، لكنهم غالبا ما يخافون من العولمة الثقافية وينكفئون عن الانفتاح الذهني والأخلاقي.
وأنا أرى أن 11 سبتمبر والحرب على الإرهاب، هما بداية تراجع طويل المدى عن العولمة في معناها الشامل. ففي أوروبا مثلا تزايدت قوة اليمين الشعبوي المتطرف، وتزايد الخوف من الهجرة والمهاجرين الذين – على الرغم من اتساع موجات وصولهم إلى القارة - تتزايد معاناتهم، وقد تتضاعف في المستقبل.
الأرجح أن العولمة الثقافية والانفتاح الذهني والأخلاقي، يقتصران على نخبة ثقافية دولية أو عالمية، قد يشكل المنضوون فيها روّاد عالم مستقبلي.
الجدران وذنوب الغرب
تروي في كتابك "غراوند زيرو" أنك سهرت مرة في أفغانستان مع جمع من نخبة ثقافية ومهنية معولمة، وعندما غادرت منزل تلك السهرة في ساعة متأخرة من الليل، شعرت بالغضب، ووصفت السهرة بأنها "منحطة" لماذا؟
كنت في زيارة استطلاعية لأوضاع أفغانستان، فدُعيت إلى تلك السهرة الباذخة في بلاد غارقة في الفقر والبؤس والظلام، كأنها في أقاصي العالم. لكنها محتلة باسم الحرب على الإرهاب وبزعم إرساء الديموقراطية فيها. وكان الساهرون نخبة من جميع أنحاء العالم، ويتقاضون من عملهم ووظائفهم في منظمات ومؤسسات دولية مرتّباتٍ من الأعلى عالميا، فتمكنهم من أن يعيشوا حياة يسر واطمئنان حتى نهاية حياتهم. لكنني ما أن غادرت تلك السهرة ومشيت خطوات قليلة في شارع من شوارع كابول المعتمة، حتى أبصرتُ أسرة يتحلّق أفرادها في الظلمة أمام كوخهم، كأنهم أشباح في ضوء سراج شحيح حول صاج معدني تخبز عليه امرأة أرغفة لإطعامهم.
أنا الألماني والغربي، ماذا كان يسعني أن أشعر وأفكر في تلك اللحظات حيال المفارقة التي يكنّي عنها هذان المشهدان المتجاوران والمتناقضان: سهرة معولمة باذخة، وأسرة في كوخ بؤس وجوع في الظلام؟! بين المشهدين تراءت لي هوّة تجعل كلّا منهما في عالم يبعد من الآخر ألوف الأميال الطبقية والمعنوية والثقافية والأخلاقية، في عالم معولم اقتصاديا.
ألا ينطوي تجاور المشهدين هذين وتباعدهما على تناقض مدمّر للعالم؟
واليوم، ألا يمكننا أن نلمح طيف المشهدين إياهما في ما حصل ويحصل بين غزة وإسرائيل اللتين لا يفصل بينهما سوى جدار إسمنتي عازل ارتفاعه 6 أمتار؟ الجدار بنته الدولة الإسرائيلية، وسجنت خلفه 2,5 مليون فلسطيني في غزة، لحماية مستوطناتها ومواطنيها منهم، بعدما كانت تُخضعهم لاحتلال استيطاني مديد. وليكتمل المشهد الصارخ في تناقضه التاريخي، نضيفُ أن الحفلة الراقصة التي أحياها إسرائيليون خلف جدار السجن الغزاوي الكبير والبائس، كان سعر بطاقة الدخول إليها مئة دولار. وهي الحفلة التي هاجمها مسلحو "حماس" المصنّفون إرهابيين، ففاجأوا المحتلين/ات الراقصين المبتهجين وقتلوا مئاتٍ منهم وأسروا عشرات.
أليست هذه الوقائع وما تلاها في غزة وليدة أخطاء وذنوب تاريخية متراكمة، تسبب بها النظام العالمي أو الدولي؟
ألا تظن أن العالم في واقعه وحقيقته وتاريخه وأقداره، تلازمه مثل هذه الانقسامات أو الفجوات والتناقضات المأسوية التي يصعب أن يشفى أو يبرأ منها؟
ربما. لكن الفجوات والتناقضات تتعمق في هذا العالم. والمسافات بين عوالمه المتباينة والمتناقضة، التي ضربنا أمثلة عنها أعلاه، تزداد اتساعا. والأرجح أن مشكلات العالم الكبرى والحقيقية، ليست أوروبا ولا الغرب مسرحها اليوم، بل جنوب العالم، حيث الفقر والمشكلات البيئية والتغيُّر المناخي والتصحّر والحروب الأهلية. وهذه كلها تفاقم مآسي الفقر والموت والهجرة واللجوء.
التباعد بين شمال العالم وجنوبه يتفاقم لأسباب شتى، معظمها كامن في النظام العالمي الذي يتحكم بمصائر البشر. ومعظم العناصر والعوامل المؤثرة في هذا النظام صنيعة الغرب الذي لم يعد نموذجا يُحتذى، أقله منذ 11 سبتمبر/أيلول 2001، وما تبعه من حروب على الإرهاب. وبدل أن ينفتح الغرب على تنوُّع الثقافات ومشاريع الحياة وأنماطها، يزداد إصراره على النظر إلى العالم من فضاء ثقافي وأناني واحد يسجن العقل والتفكير، ويقلل فرص التعدد والتوازن والحرية.
لكن كأنك تُحمِّلُ الغرب، والولايات المتحدة الأميركية تحديدا، مسؤولية أخطائهما وذنوبهما، وتُبرئ سواهما من الأخطاء والذنوب؟ ألا تتحمّل البلدان العربية مثلا شطرا من المسؤولية عن تردّي أحوالها الماثلة اليوم؟
البلدان العربية جزء من العالم. أوروبا والغرب غير مسؤولين عن كل أخطاء الآخرين. لكن نفوذ أوروبا وأميركا والغرب قوي في العالم العربي. غير أنه نفوذ سلبي وليس إيجابيا، أقله منذ حقبة الحرب الباردة، وصولا إلى حقبة الحرب على الإرهاب. يجب ألا ننسى أنني كتبت "غراوند زيرو" لأخاطب الغرب، لا البلدان العربية. وأنا أنظر إلى العالم من منظار نقد الذات ومراجعة الأخطاء الذاتية والاعتراف بها. لديّ أمل في أن أغيّر المفاهيم هنا في مجتمعي الغربي الذي أتوجه إليه بالنقد، وحيث يمكن أن يكون صوتي مسموعا. لكن لو كنت عربيا لانتقدت كل شيء في البلدان والمجتمعات والسياسات العربية، فأكون إذّاك أنتقد بلادي ومجتمعي.