تمر تركيا بأزمة اقتصادية ونقدية حادة، من مظاهرها ارتفاع صاروخي لمعدلات التضخم، حيث بلغ عام 2022 اعلى مستوياته عند 86 في المئة، ليعود ينخفض في العام المنصرم إلى حدود 60 في المئة، وهناك تقديرات بأن معدلاته ضعف ما يعلَن رسميا. كذلك، انهارت العملة الوطنية من أربع ليرات للدولار الأميركي الواحد عام 2017 إلى ثلاثين ليرة نهاية 2023، وكسرت هذا الحاجز قبل أيام في أدنى مستوى تاريخي لليرة في مقابل الدولار، ولامس اليورو 33 ليرة تركية، وتراجعت الودائع بالعملات الأجنبية من 120 مليار دولار في بداية 2022 إلى أقل من 40 مليار دولار في منتصف 2023.
تعود أصول الازمة إلى انتقال البلاد الى نظام رئاسي عام 2017 واعادة انتخاب الرئيس رجب طيب اردوغان، الذي تولى السلطة عام 2014، رئيسا بمقتضى النظام الجديد عام 2018. فباشر منذ تسلمه الرئاسة الثانية ممارسة حكم تسلطي مستندا الى قول شهير له "الدولة التي ليس لها قائد قوي تنهار"
نظرية "إردوغانوميكس"
أخطر ما في توجه إردوغان، تدخله إظهارا لقوته في المجالين المالي والنقدي، بتعيينه المسؤولين عنهما على أساس الولاء أولا. هكذا عيّن صهره بيرات البيرق وزيرًا للمالية، إلا أنه أقاله بعد ذلك، وكذلك فعل بمن حل محله وبأربعة حكام للمصرف المركزي خلال خمس سنوات. كما ضغط لخفض معدلات الفائدة في الأزمة التضخمية التي تعيشها البلاد بحجة أن معدلاتها المرتفعة تجعل الناس أكثر فقرا، مما دفع الكثيرين إلى الكتابة عن ابتداعه نظرية اقتصادية جديدة مخالفة لقواعد العلم الاقتصادي، أطلقوا عليها تسمية الـ"إردوغانوميكس" (Erdoganomics)، روّج لها على أساس اعتمادها على الآية القرآنية التي تحرّم الربا، وعلى أفكار منتقاة للاقتصادي إيرفينغ فيشر.
للمزيد إقرأ: الفخر والتحديات في مئوية الجمهورية التركية
أخطر ما في توجه إردوغان، تدخله إظهارا لقوته في المجالين المالي والنقدي، بتعيينه المسؤولين عنهما على أساس الولاء أولا
اللافت كان تبني مسؤولين أجانب هذه النظرية، مثل وزير مالية غانا، كين أوفوري أتا، حيث رددها في القمة الأخيرة للتمويل الأخضر في باريس، قائلا "أتساءل حقاً ما إذا كانت النظريات الكلاسيكية هي السبيل للاستمرار. علينا خفض أسعار الفائدة لمواصلة النمو". وقد فاته أن مشكلة هذا النمو وما يصحبه من تحفيز للاستهاك والانفاق والاستثمار، هي أنه موقت عندما يكون التضخم مرتفعا، فهو من قبيل التعزيز الموقت للطاقة، تماما كمفعول السكر في الجسم، ويذكّر بطفرة وزير الخزانة البريطاني نايجل لوسون في أواخر الثمانينات، حيث حل الركود في البلاد وزاد التضخم بمستويات أعلى في المرحلة التالية لطفرة الانفاق والاستثمار والاستهلاك بغير انضباط.
ماذا جنت تركيا؟
وهذا ما حصل في تركيا مع خفض أسعار الفائدة بدفع من إردوغان، بمعدلات أعلى من معدلات التضخم بهدف محاكاة التجربة الصينية في تعزيز الصادرات. فباتت تكاليف الاقتراض متدنية وتنافسية مما حفز الاستثمار والاستهلاك على السواء، لكنه زاد التضخّم، فتآكلت مداخيل ومدخرات العمال والطبقة الوسطى الذين ليس لديهم إمكان التحوط ضده، مما دفع الحكومة إلى تفادي الغضب العام برفع الحد الأدنى للأجور والمعاشات التقاعدية بانتظام وبمعدلات تآكلت سريعا مع استمرار دوامة التضخم. وبات معظم الأتراك غير قادرين على توفير حاجاتهم المعيشية فعمدوا إلى استخدام بطاقات الائتمان لتأمينها بفوائد مرهقة مما يهدد بانفجار فقاعة الديون المتراكمة على هذه البطاقات مع ارتفاع عددها إلى نحو 114 مليون بطاقة.
للمزيد إقرأ: داود أوغلو لـ"المجلة": الجميع فشلوا في "الربيع العربي"... وعلى صديقي السابق أردوغان أن ينقذ تركيا
انعكس التضخم زيادة في أسعار الواردات، خصوصا أسعار الطاقة، مما دفع تركيا إلى الإحجام عن السير بركب الغرب في عقوباته الاقتصادية على روسيا بسبب حربها على أوكرانيا
وانعكس ارتفاع التضخم زيادة في أسعار الواردات، خصوصا أسعار الطاقة، مما دفع تركيا إلى الإحجام عن السير بركب الغرب في عقوباته الاقتصادية على روسيا بسبب حربها على أوكرانيا، الأمر الذي قابلته روسيا بتصدير النفط والغاز إليها بأسعار مخفضة، مع تمديد لمهل السداد، دون أن تنجح تركيا في تحقيق مكاسب من ذلك من خلال إعادة تصدير هذه المنتجات إلى أوروبا كما فعلت الهند. وارتفع العجز في الحساب الجاري مع ضمور السياحة بسبب تفشي كوفيد-19 والحرب على أوكرانيا، كما ارتفع الدين العام أكثر من أربعة أضعاف خلال ولاية إردوغان الرئاسية الأولى، وتراجع النمو في المقابل بشكل حاد في العامين الأخيرين. كما انخفضت قيمة العملة التركية بنحو 80 في المئة، واحتياطات العملات الأجنبية أيضا، مما دفع الى تعزيزها باتفاقيات مبادلة (swaps) مع بنوك مركزية صديقة. كذلك، تقلصت استثمارات الشركات الغربية وسجل هروب كثيف لرؤوس الأموال، وظهر خوف جدي من التخلف عن سداد الديون السيادية.
من المهم تحصين رئيسة البنك المركزي التركي حفيظة غاية أركان في مهمتها فلا تتعرض مستقبلا لإقالة تعسفية كمن سبقوها في منصبها، والحل المثالي تكريس استقلالية المصرف المركزي التركي بنص دستوري يقيه من ضغوط السلطة
كان يؤمل من الضغوط السابقة على إردوغان أن يرضح للعودة إلى "الأرثوذكسية الاقتصادية"، بعد التجديد له رئاسيا في مايو/أيار 2023. فعيّن محمد شيمشك وزيراً جديداً للمالية، وحفيظة غاية أركان الحائزة شهادة الدكتوراه في الهندسة المالية على رأس المصرف المركزي، لتكون أول امرأة تتولى هذا المنصب، والحاكم الخامس خلال رئاسته. وكان من أول قراراتها رفع سعر الفائدة الرئيس إلى 40 في المئة للحد من التضخم الذي بلغ 62 في المئة في حينه، مما انعكس زيادة ضاغطة لأعباء الائتمان الشخصي والدين العام.
من المهم الآن تحصين أركان في مهمتها فلا تتعرض مستقبلا لإقالة تعسفية كمن سبقوها في منصبها، والحل المثالي تكريس استقلالية المصرف المركزي التركي بنص دستوري يقيه من ضغوط السلطة، على أن تتولى المحكمة الدستورية مراقبة قراراته، فتطعن في انحرافاتها على النحو الذي صممه كونراد اديناور في مقدمة برنامجه لبناء دولة ألمانيا الحديثة واقتبسته دول أخرى، واتفاقية المصرف المركزي الأوروبي.