في السنوات الخمسين الماضية، منذ أن أطلق وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر مهمته الدبلوماسية المكوكية الشهيرة لإحلال السلام في الشرق الأوسط، لم يمر شيء يوضح التراجع الأخير للنفوذ الأميركي في المنطقة أكثر من الجهود المتعثرة التي يبذلها وزير الخارجية الحالي، أنتوني بلينكن.
ومنذ أن شنت "حماس" هجومها المدمر ضد إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول، كانت إحدى الأولويات الرئيسة لإدارة بايدن هي الحد من المعاناة التي يتعرض لها المدنيون الفلسطينيون الناجمة عن الرد العسكري الإسرائيلي.
وكما رد الرئيس الأميركي جو بايدن عند تعرضه لمضايقات من قبل المؤيدين المتعاطفين مع الفلسطينيين أثناء حملته الانتخابية في ولاية كارولينا الجنوبية، في وقت سابق من هذا الأسبوع، قال بايدن: "أنا أتفهم حماستكم، ولقد عملت بهدوء مع الحكومة الإسرائيلية لحملها على التخفيف من حملتها بشكل كبير والخروج من غزة".
لكن مع عدم إظهار إسرائيل أية رغبة في التخفيف من ضراوة هجومها العسكري لتدمير "حماس" في غزة، وتحذير مسؤولي الأمم المتحدة من تفاقم الكارثة الإنسانية، اضطرت واشنطن إلى إرسال بلينكن في مهمة دبلوماسية مكوكية أخرى إلى المنطقة– وهي الرابعة له منذ بدء الأعمال العدائية في أكتوبر– في محاولة يائسة لإنهاء المجزرة.
وبغض النظر عن السعي لإقناع إسرائيل بتخفيف حدة هجومها ضد "حماس"، كان أحد البنود الرئيسة الأخرى على جدول أعمال بلينكن خلال مهمته التي استمرت أسبوعا في المنطقة هو صياغة خطة إعادة إعمار غزة بمجرد انتهاء القتال.
أكد بلينكن أنه حصل بالفعل على دعم الدول العربية الرئيسة، إضافة إلى دعم تركيا، لبدء التخطيط لإعادة إعمار غزة وإدارتها بمجرد انتهاء حرب إسرائيل ضد "حماس"
وفي هذا السياق، شرع بلينكن في عقد سلسلة من الاجتماعات رفيعة المستوى مع القادة في كل من الأردن وقطر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وإسرائيل ومصر والبحرين، بينما خصص بعض الوقت للقاء رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. وإضافة إلى ما سبق كانت له محطات في تركيا واليونان.
وفي كل اجتماع، شدد المبعوث الأميركي على ضرورة التوصل إلى توافق في الآراء بين مختلف اللاعبين الإقليميين بشأن مستقبل غزة، وهو الجدل الذي تصدر جدول أعماله عندما التقى بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في مدينة العُلا.
ويؤكد بلينكن أنه حصل بالفعل على دعم الدول العربية الرئيسة، إضافة إلى دعم تركيا، لبدء التخطيط لإعادة إعمار غزة وإدارتها بمجرد انتهاء حرب إسرائيل ضد "حماس". وكما أوضح لاحقا في مؤتمر صحافي، تعتقد الولايات المتحدة أنها توصلت إلى وضع إطار لاتفاق مع كل من المملكة العربية السعودية والأردن وقطر والإمارات العربية المتحدة وتركيا "للعمل معا وتنسيق جهودنا لمساعدة غزة على الاستقرار والتعافي، ورسم خارطة طريق تضع مسارا سياسيا كي يتمكن الفلسطينيون من المضي قدما والعمل على تحقيق السلام والأمن والاستقرار على المدى الطويل في المنطقة ككل".
وصرح بأنه إذا أثبتت هذه المبادرة نجاحها، فقد تؤدي إلى قيام السعوديين والقادة العرب الآخرين بالسعي إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل، طالما كانت التسوية السياسية الإسرائيلية الفلسطينية الدائمة جزءا من الصفقة.
ومع ذلك، على الرغم من كل التفاؤل الذي أعرب عنه بلينكن خلال اجتماعاته مع القادة العرب حول تأمين مستقبل أفضل للفلسطينيين وبقية المنطقة، فقد تعرت حقيقة الوضع خلال زيارته لإسرائيل، حيث واجه رفضا قاطعا من قبل الحكومة الإسرائيلية تجاه أية فكرة حول قيام دولة فلسطينية مستقلة.
وبعد أن ناقش دعم واشنطن لحل الدولتين كحل للقضية الفلسطينية خلال لقائه مع عباس، لم يحقق اجتماعه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أي تقدم يذكر. ولم يكتف رئيس الوزراء الإسرائيلي بتكرار اعتراضه على إنشاء دولة فلسطينية مستقلة، بل أعاد التأكيد على وجهة نظره بأن إسرائيل سوف تتولى مسؤولية الأمن في غزة ولفترة طويلة بعد انتهاء القتال ضد "حماس".
كان قرار الحوثيين بشن هجوم كبير في البحر الأحمر خلال جولة بلينكن في المنطقة مثالا آخر لاضمحلال قدرة أميركا على فرض نفوذها في المنطقة في السنوات الأخيرة
لعل المثال الأوضح على فشل بلينكن في تحقيق أي تقدم ملموس خلال مهمته التي استمرت أربعة أيام هو إطلاق الحوثيين المدعومين من إيران أكبر هجوم لهم على الإطلاق على السفن التجارية في البحر الأحمر، أثناء وجوده في المنطقة.
كان منع تصعيد الصراع في غزة إلى صراع أوسع في الشرق الأوسط هدفا رئيسا آخر لإدارة بايدن منذ اندلاع الأعمال العدائية في غزة. ولتحقيق هذا الهدف، وجهت الولايات المتحدة وحلفاؤها تحذيرا للحوثيين بضرورة التوقف عن مهاجمة السفن الدولية في البحر الأحمر أو سوف يواجهون العواقب.
لقد كان قرار الحوثيين بشن هجوم كبير في البحر الأحمر خلال جولة بلينكن في المنطقة مثالا آخر لاضمحلال قدرة أميركا على فرض نفوذها في المنطقة في السنوات الأخيرة.
من المؤكد أن الأجواء المحيطة بجولة بلينكن غير الحاسمة تتناقض بحدة مع الاهتمام الذي جذبه وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر قبل خمسين عاما عندما سعى إلى تهدئة التوترات في المنطقة في أعقاب الحرب العربية- الإسرائيلية عام 1973.
نجح كيسنجر خلال عامين من الدبلوماسية المكوكية المكثفة في المنطقة، في التفاوض على اتفاقين لفض الاشتباك بين مصر وإسرائيل واتفاق ثالث بين إسرائيل وسوريا، الأمر الذي مهد الطريق أمام مصر في نهاية المطاف لإبرام اتفاق السلام التاريخي مع إسرائيل عام 1979 في عهد الرئيس جيمي كارتر.
بل يمكن القول إن جهوده أدت إلى اتفاقات التطبيع المعروفة باسم اتفاقات أبراهام التي وقعتها عدة دول عربية مع إسرائيل في نهاية إدارة ترمب.
ومع ذلك، كان أحد أبرز عيوب كيسنجر هو فشله في إيجاد حل لمصير الفلسطينيين، وهو الإغفال الذي يكمن في قلب الأزمة التي تواجه المنطقة اليوم.
والحقيقة أن رجل الدولة المخضرم، قبل وقت قصير من وفاته في العام الماضي، حذر من أن الهجمات التي نفذتها "حماس" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول قد تخلف عواقب وخيمة على المنطقة، وخاصة على إسرائيل.
المشكلة التي تواجهها واشنطن، أن نفوذ واشنطن في المنطقة، انحسر اليوم ليصل إلى مستوى منخفض للغاية
وقال كيسنجر في تصريحات نشرها في موقعه على الإنترنت قبل وقت قصير من وفاته أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي: "في الشرق الأوسط، أعاد الهجوم الهمجي الذي شنه الإرهابيون تعريف المشكلة بالنسبة لإسرائيل وحلفائها"، محذرا من أن الولايات المتحدة بحاجة إلى تنشيط دورها القيادي في منطقة الشرق الأوسط إذا أردنا تجنب المزيد من إراقة الدماء.
وحذر كيسنجر من أن "السؤال المباشر هو ما إذا كانت الدولة اليهودية قادرة على تحقيق تطلعاتها في الحرية في مواجهة هذه الأسلحة المتراكمة على حدودها، سواء في الشمال أو الجنوب، والعداء الصارخ لإسرائيل من قبل بعض الفلسطينيين والذي أدى إلى وقوع الكارثة الأحدث".
لكن المشكلة التي تواجهها واشنطن، والتي كان سيقبلها كيسنجر نفسه بلا شك، هي أنه بعد سنوات من التجاهل المتعمد للتحديات السياسية في الشرق الأوسط، فإن نفوذ واشنطن في المنطقة، كما أظهرت جولة بلينكن الأخيرة، انحسر اليوم ليصل إلى مستوى منخفض للغاية.