رسالة إلى وائل الدحدوح

رسالة إلى وائل الدحدوح

خصت إحدى قنوات التلفزيون المصري حلقة للصحفي وائل الدحدوح بعد أن فقد ابنه البكر إثر قصف السيارة التي كانت تقله، هو وزميله، لتغطية الهجوم الذي تعرضت له إحدى مناطق قطاع غزة. كانت الحلقة في شكل استطلاع وعرض لبعض صور ما تعرض له الصحفي المقتدر وأسرته وزملاؤه، خلال الاعتداء الأخير على القطاع. إلا أنها ركزت على إبراز ذهول المستطلعين، ودهشة صاحب البرنامج وحيرته، أكثر مما أبرزت آراء الصحفي الفلسطيني الذي جعل طاقم البرنامج يبقى مشدوها أمام من نعته بـ "الجبل الصامد".

هذه النغمة نفسها تجسّدها، بكيفية أكثر قوة، الرسالة التي وجهها عبر "يوتيوب" رجل صعيدي إلى الصحفي ليعزيه في وفاة ابنه. يبدو صوت الصعيدي كأنه "يعاتب" الدحدوح على شموخه وصلابته، وكونه عاد مباشرة ليمارس تغطيته للأحداث بعد كل ما أصابه خلال العدوان الأخير على القطاع، حيث لقيت طفلته الصغيرة وزوجته، وكثير من أقربائه حتفهم خلال هجوم بقذيفة إسرائيلية على بيته، وحيث تعرض هو وزميله إلى هجوم آخر، وهما يركبان السيارة التي تقلهما لتغطية الأحداث في إحدى مناطق القطاع، فأصيب هو إصابات خفيفة بينما لقي زميله سامر أبو دقة حتفه، وأخيرا الفاجعة الكبرى التي أصابته في فقدان بكره حمزة وهو يمارس مهنته كصحفي.

ما يثير في رسالة الصعيدي هو نغمتها التي تقرب من شكل العتاب المحبّ حيث "يأخذ" على الصحفي صموده ومثابرته، وتقبله لكل ما تعرض له: "ثلاث محاولات تهدّ جبال الدنيا يا خال وائل، وأنت لسّة واقف زي السبع في قلب الميدان... ايه القوة اللي عندك ده؟ منين جبت الصبر اللي أنت فيه ده؟ أنت مين يا عم وائل، قل لي يا رجل أنت مين؟ أنت من نفس الطينة اللي حنا منها، واللا؟ أول مرة قصفوا أسرتك كلها وفي نفس اليوم بدأت تغطية إخبارية ولا كأنك فقدت أعز الناس ليك يا أخي. من وين جايب الصبر والثبات اللي أنت فيه ده؟ إزاي تشيع جنازة ولدك في النهار، وتطلع تغطيها إخبارية بالليل؟".

صمود الدحدوح يتحدّى العدو، ويتحدى الجميع بمن فيهم من يحاول أن يصفه. فهو يشعر المرء بالعجز، ويجعله يشك في قدراته ومدى تحمله لما قد يلحقه من أهوال

صمود الدحدوح يتحدّى العدو، ويتحدى الجميع بمن فيهم من يحاول أن يصفه. فهو يشعر المرء بالعجز، ويجعله يشك في قدراته ومدى تحمله لما قد يلحقه من أهوال. لقد بلغ الصحفي الفلسطيني أقصى درجات التحمل، وأشدها قسوة. لكنه تمكن من أن يظل شامخا صامدا بحيث يجعل كل من يسمعه، أو يسمع عنه، يشعر باستحالة بلوغ هذه الدرجة من الصبر: "يا رجل أنت عجزت كل الصحفيين من بعدك. خليت الكاميرا أقوى من الصاروخ النووي، وصوت الميكروفون أشد من صوت المدافع".

لقد استطاع ابن غزة أن يصبح فكرة، فكرة تجسّد كل ما عاشه أهل غزة من أهوال خلال المائة يوم الماضية، وكل ما تعرّض له أهلها من دمار وفقدان للأبناء والأقرباء. لكن الصحفي المقتدر ظل مقتنعا بضرورة استئنافه للعمل وفاء لكل من فقدهم.

 "امبارح قتلوا حمزة وأنت، يا أبو حمزة واقف تودعه كأنك كل شعب غزة، وكأنك أنت نفسك غزة، وغزة هي أنت يا دحدوح": لقد استطاع الدحدوح أن يتحول إلى فكرة، فكرة مزعجة، تزعج العدو، لكنها تحرج الجميع بمن فيهم بعض الصحفيين الذين لا يقدرون المسؤولية التي تلقيها على أكتافهم ما تلقب بمهنة المتاعب: "أنت مين قلي؟ أنت تعمل إيه في زماننا؟ إحنا في زمن خنوع وخضوع. أنت جاي هنا تعمل إيه؟ جاي تحرجنا يا خال، واللا إيه بالضبط؟ إحنا الصحافة عندنا تكييف والأقلام فيها تحريف، والمعارك الصحفية عندنا عبارة عن انفصال الفنان عن الفنانة. أنت إزاي الصحافة عندك هي محاربة جيش بيقود حرب إبادة على شعب أعزل؟ وأنت واقف في وشه وحدك، وسلاحك هو ميكروفونك وكاميراتك، وبعد ده كله ثابت وصلب وواقف في وش المصايب، وبتقول معليش يا جبل ما يهزك ريح".

يؤمن الدحدوح إيمانا قويا بأن كلمة الصحفي تعادل سلاح الجندي، وأن الجهر بصوت الحقيقة شكل من أشكال المقاومة

عندما يُسأل الدحدوح عن رأيه في ما تعرض ويتعرض له يجيب بأن ذلك هو قدره. وأن ما يتبقى له هو الوقوف أمام العدوان واحترام من فقدهم. وهو يؤمن إيمانا قويا بأن كلمة الصحفي تعادل سلاح الجندي، وأن الجهر بصوت الحقيقة شكل من أشكال المقاومة، وأن لا أحد بمقدوره أن يسكته: "جيش كامل بمخابراته وطياراته وصواريخه بيعمل كل ده علشان يهدك، ومش عارف. للدرجة دي أنت تاعبهم وحارق أعصابهم. ده أنت عمرك ما مسكت بندقية يا بو حمزة، ولا حتى مسدس صوت، وإلا هو صوت الحقيقة اللي قالق منامهم ومخليهم خايفين منك".

هذا الصوت صوت مخيف، لأنه يدفع المرء إلى أن يعيد حساباته، ويشك في قدراته، ليس قدراته الذهنية وحدها ومدى قوة استيعابه لما يجري، ولكن أساسا قدرته على التحمل وعلى الصبر ومواجهة الصعاب. ربما هذا الخوف هو الذي أدهش صحفيي البرنامج التلفزيوني الذي أشرنا إليه وجعلهم يحارون في مقابلتهم معه، وهو الذي أعطى لنغمة خطاب الصعيدي شكل استغراب "معاتب" يأخذ على الدحدوح "تعجيزه" لكل من يسمعه أو يسمع عنه.

font change