ينتمي التشكيلي العراقي جبر علوان إلى فئة قليلة من الفنانين الذين أولوا اللون عناية فائقة، واستطاعوا توظيف هذا العنصر وإظهار جمالياته إلى الحد الأقصى عبر توزيعه على سطح اللوحة وفق إيقاع موسيقي متناغم، قد نرى مثيلا له في أعمال فنانين كبار من أمثال رامبرانت وكلود مونيه وأوغست رينوار... وغيرهم.
يخيل للمرء، وهو يتمعن في لوحات علوان، أن هذا الكرنفال اللوني المتناسق، جاء عبر حركة ريشة حريصة على أن يكون العناق بين اللوحة والعين موزونا وباعثا على الدهشة، تماما مثل حركة عصا المايسترو الذي يحرص على أن يصل النغم دون أدنى نشاز، ومثل هذا الهارموني اللوني ألهم الروائي الراحل عبد الرحمن منيف لكتابة دراسة نادرة عن تجربة جبر، عنوانها ”جبر علوان... موسيقى الألوان“، قال فيها: ”إن الرحلة مع ألوان جبر بقدر ما تـولد متعة بصرية، فإنها تطرح مسألة بالغة الأهمية، لأنها تجعلنا نعيد النظر في الألوان التي حولنا، أو تجعلنا نراها بشكل مختلف عما تعـوّدنا رؤيتها“.
إلى جانب هذا الايقاع الموسيقي في لوحة جبر، الذي أتاح له أن يكون أحد أبرز الملوِّنين على مستوى العالم، فإن لوحته تكاد تكون أشبه بكتلة نحتية في فضاء مفتوح، فهو يتقصد تخفيف اللوحة من الأشكال والخطوط والأحجام، النابعة، أصلا، من فن الزخرفة الشرقية الحافلة بالتفاصيل، وهو ما لا يستسيغه جبر الذي يترك فراغات واسعة على سطح اللوحة يشغلها اللون الأحمر أو الأخضر أو الأصفر أو أي لون آخر يراه مناسبا للكتلة التشكيلية، وهو بذلك يقدم نموذجا مغايرا للفنون البصرية قائما على جمالية الفراغ، وفقا لرؤية تشكيلية تقول إن اللوحة ”ليست عملا فنِيا، إلا إذا أبقت ما يكفي من الفراغات لجعل الخيول تعدو فيها“.
روما منحتني كل شيء، بل أعادت تكويني الثقافي من جديد. هي بمثابة كتاب مفتوح، وأشبه بمتحف في الهواء الطلق
وعلى الرغم من تجاوز تجربته التشكيلية النصف قرن، غير أن ذلك لم ينتزع من روح جبر رهبة الوقوف أمام القماشة البيضاء، التي سرعان ما تتحول بضربات قلبه وريشته إلى مهرجان لوني ساحر، ينجزه الفنان عبر طقس احتفالي مقدس لم يتغير، منذ عقود، فهو لا يدخل مرسمه في روما إلا بـمزاج نفسي رائق، كما يقول، وبعد أن يتأنق ويحلق ذقنه ويتعطر على نحو يليق باللوحة المقبلة، وكمن يستعد لأول موعد غرامي، ولا يكتمل الطقس إلا بالموسيقى.
أقام جبر عشرات المعارض الفردية، شرقا وغربا، ودخلت أعماله في مقتنيات العديد من المجموعات العامة والخاصة في مختلف أنحاء العالم، من بينها متاحف الفن في بغداد ودمشق والكويت وقطر ودبي والشارقة وروما ولشبونة وغيرها.
بدايات
ولد جبر علوان عام 1948 في إحدى القرى التابعة لقضاء المحاويل في محافظة بابل جنوب بغداد، من الزوجة الثانية لوالده المزارع علوان سلمان الذي كان يستقبل في مضافته الفلاحين ووجهاء المنطقة ويتحدثون في أمور الزراعة والصيد والمشاغل الحياتية اليومية، دون أن يكون للفن أي حيز في تلك البيئة البسيطة التي لم تكن تتوفر على أي حافز قد يدفع طفلا مثله إلى الفن.
حين نسأله عن تلك البدايات وكيفية تعلقه بالرسم، لا يعثر جبر على جواب أو تفسير واضحين، إذ يقول في حوار مع "المجلة": "كنت كأي طفل ارتاد المدرسة وأرسم في حصة مخصصة للرسم، لكني كنت أرسم أكثر من زملائي. كنت أرسم بالطباشير، أو أصنع أشكالا نحتية من الطين، ولعل الواقعة التي ربما كانت بمثابة تشجيع لي هي أنني حصلت في المرحلة الابتدائية على جائزة عن عمل نحتي، وهذا دفعني لأهتم بالرسم أكثر، لكن لم يكن هناك أي تشجيع من الأهل أو من المدرسة. بعد الابتدائية انتقلت إلى المرحلة المتوسطة، وهناك أتيحت لنا في حصة الرسم الألوان الزيتية وأدوات احترافية للرسم، فضلا عن وجود أستاذ شجعني كثيرا، وقال لي إنه عليّ التسجيل في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وبالفعل انتسبت، نهاية الستينات إلى المعهد".
معهد الفنون الجميلة
في هذا المعهد بدأت الرحلة الأكاديمية الأولى لجبر علوان بعدما تشبّع، على نحو عفوي، بألوان طمي الفرات وسعف النخيل وضوء الشمس في غبش الفجر وهو يتوجه إلى مدرسته الابتدائية على صهوة حصان والده الأبيض.
يقول: "كان المعهد في حقبة الستينات يمثل معلما ثقافيا وفنيا يحث على الاكتشاف والتفاعل، فبالإضافة إلى جمال المكان من حيث الموقع والطراز المعماري والحدائق المحيطة به، فإن الحياة داخل المعهد كانت مليئة بالغنى والجمال: المسرح، الموسيقى، وقاعات الرسم والنحت، والحوارات الثقافية، والعلاقات بين الطلبة والأساتذة... كنا نقرأ نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ونشارك في الأنشطة الفنية المختلفة، وأقمنا صداقات مع النخبة الثقافية، آنذاك، وأذكر بصورة خاصة علاقتي مع الروائي الراحل غائب طعمة فرمان (1927 - 1990)، صاحب "النخلة والجيران"، و"آلام السيد معروف"، وقد امتدت صداقتنا حتى رحيل فرمان... باختصار كانت الحياة الثقافية والفنية حافلة بالأنشطة وهذا ما مهد للانتقال إلى المرحلة التالية".
سافر جبر الى روما في العام 1972 ليكمل دراسة الفن، بناء على نصائح من مدرسيه في المعهد البغدادي، وهو لم يشأ أن يخذل أساتذته، أو أن يقمع نداء غامضا في روحه التي اختزنت كنوزا بصرية ونحتية من أطلال بابل وأعمال الرسام والنحات جواد سليم (1919 - 1961) الذي يعد من أكثر الفنانين تأثيرا في تاريخ العراق الحديث، وهو صاحب نصب الحرية الشهير الواقع في احدى ساحات وسط بغداد، وكذلك محمد علي شاكر، وهو أيضا رسام وخطاط معروف كان يدرّس في المعهد في الستينات بعد دراسته للفن في روما. سار جبر على خطى أستاذه وحل في عاصمة الفن والثقافة وفي جيبه مئة دولار فقط.
كنت أقضي معظم وقتي لدى سعدالله ونوس في أيامه الأخيرة وعندما كنت أنجز لوحة جديدة، كنت أطلعه عليها فأشعر أنها بمثابة البلسم الذي ينعش روحه
الوصول إلى روما كان سهلا، وعلى حسابه الشخصي، كما يوضح، لكن الحياة لم تكن سهلة في روما، في البدايات، فكافح بالرسم إذ اضطر إلى رسم بورتريهات للسائحين خلال الصيف في ساحة "نافونا" الشهيرة وسط روما حتى يستطيع تأمين تكاليف دراسته في أكاديمية الفنون.
درس النحت أولا حتى العام 1975 حيث أقام في ذلك العام أول معرض لأعماله، ثم درس الرسم حتى العام 1978، وكان يتابع النشاطات الفنية المختلفة من الموسيقى والمسرح والسينما وعروض الباليه، إلى جانب زيارة المتاحف وصالات العروض التشكيلة، وتعرف إلى شخصيات بارزة من الفنانين والنقاد الذين واكبوا عروض أعماله، ونال علوان جائزة بلدية روما عام 1985 التي سبق أن منحت لفليني، وكان جبر أول أجنبي يحصل عليها.
يقرّ جبر بفضل روما عليه: "روما منحتني كل شيء، بل أعادت تكويني الثقافي من جديد. قبل روما كنا نستقي الأفكار من الكتب، ومن الدراسة الأكاديمية النظرية، لكن روما كانت بمثابة كتاب مفتوح، وأشبه بمتحف في الهواء الطلق من خلال هندستها المعمارية المدهشة، والأعمال النحتية الموزعة في شوارعها وساحاتها ومبانيها التي تعود لتواريخ غابرة، فضلا عن دور السينما والغاليريهات الفنية والحركة التشكيلية النشطة التي كانت تعد في السبعينات أهم حركة على مستوى أوروبا، ففي كل أسبوع كان هناك أكثر من معرض، ناهيك بالموسيقى والموضة وحتى المطبخ الإيطالي المعروف بثرائه وتنوعه. كل ذلك أتاح لي فضاء حضاريا وثقافيا رحبا ومواتيا لمن يبحث عن الفن والجمال، كما استفدت كثيرا من جماليات السينما الإيطالية وموجة الواقعية الجديدة".
يشير علوان إلى أنه استفاد، كذلك من نظرية فلّيني حول الضوء الذي اعتبره الأساس في السينما، فهو قد يعبّر عن الأيديولوجيا، والمشاعر والأجواء وطريقة السرد وغيرها من الحالات، وأن ليس ثمة مصدر واحد للضوء بل مصادر متعدّدة، وهذا ما جسّده علوان في أعماله واختزله المسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس عندما وصف لوحات جبر بأنها "حفنة من الألوان القزحية، وحفنة من الأضواء السرية، وموهبة سحرية قادرة على أن تبدع بدءا من هذه المواد المتقشفة لوحات هي كالرؤى، تغير كيمياء الجسد وتغير حالاته المزاجية".
الحنين إلى الشرق
لدمشق في سيرة جبر علوان مكانة خاصة، تكاد تترجم ما قاله أحمد شوقي "وعز الشرق أوله دمشق"، فحين تكرس اسمه في عالم التشكيل، وتشرب بروح الثقافة الغربية، نما لديه الحنين من جديد إلى الشرق وإلى أجواء بغداد في الستينات ومطلع السبعينات حين كانت الحركة الثقافية نشطة، وكان مثقفو اليسار يحركون إيقاع الحياة بأشعارهم ورواياتهم ورسوماتهم وسجالاتهم، فكانت دمشق هي الوجهة البديلة، في وقت كان متعذرا فيه الذهاب إلى بغداد.
اللون لديّ عنصر جمالي بحت، على خلاف نظريات الباحثين في هذا الصدد. فالأحمر ليس بالضرورة أن يكون رمزا للثورة، مثلا، أو للدماء
يقول: "دمشق كانت اكتشافا رائعا، بطرازها المعماري ويومياتها البسيطة وأسواقها القديمة الملونة العابقة بروائح التوابل والبخور، ومطبخها المتنوع وكرم أهلها والحضور المحبب والمؤثر لمثقفيها، سواء المقيمين فيها أو الوافدين إليها، من ونوس إلى منيف إلى ممدوح عدوان وجواد الأسدي وغيرهم ممن شجعوني على زيارات متعددة قبل أن تتحول إلى إقامة شبه دائمة، حيث اشتريت منزلا في دمشق في زقاق متفرع عن شارع العابد، وأصبحت جارا للشاعر السوري البدوي الراحل بندر عبد الحميد، وكان منزله الصغير بمثابة مؤسسة ثقافية ضخمة تستضيف رموز الثقافة في العالم العربي ممن يزورون دمشق أو يقيمون فيها.
ولا أنكر أنني، ومن خلال لقاءاتي وجلساتي مع مثقفي دمشق وضيوفها، تعرفت مجددا إلى الثقافة العربية، وكنت في حوار دائم معهم، وخصوصا سعد الله ونوس، إذ كنت أمضي معظم وقتي لديه في أيامه الأخيرة قبل رحيله في منتصف مايو/أيار عام 1997، وعندما كنت أنجز لوحة جديدة، كنت أطلعه عليها فأشعر بأن لوحتي هي بمثابة البلسم الذي ينعش روحه خلال محنة مرضه".
في عيون الأدباء
هذا الحديث يقود إلى مسألة الإعجاب الذي تحظى به لوحة جبر لدى الأدباء، فإضافة إلى ونوس، ومنيف، أنجز علوان مع الشاعر العراقي الراحل سعدي يوسف كتاب "إيروتيكا"، الذي جاء على شكل حوار بين اللوحة والقصيدة، وفقا للمقولة التي تفيد بأن "اللوحة قصيدة صامتة، والقصيدة لوحة ناطقة". صدر الكتاب عن "دار المدى" التي تأسست في دمشق في التسعينات قبل أن تنتقل إلى بغداد بعد سقوط نظام صدام حسين في 2003، وكانت "دار المدى" لصاحبها فخري كريم بمثابة منتدى جمع نخبة مثقفي اليسار، وخصوصا العراقيين، الذين تشتتوا في المنافي لتجمعهم دمشق من جديد، في تلك المرحلة، قبل أن تهب عواصف الأزمة وتعصف بكل هذه الأجواء الثقافية الطموحة، ليخسر علوان محطة مضيئة في حياته.
تعاون جبر كذلك مع جواد الأسدي في عرضين مسرحيين، عبر التزاوج بين المسرح والتشكيل، وهما "حمام بغدادي"، و"نساء الساكسفون"، عن نص لوركا الشهير "منزل برناردا البا"، فضلا عن أن علوان رسم بورتريهات لعدد من الشخصيات الثقافية المعروفة مثل الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري وكذلك سعد الله ونوس.
يعلق جبر على سر هذا الإعجاب بلوحته من النخبة الثقافية: "لا أعرف تفسيرا للأمر، ربما الإجابة تكمن لديهم، ولكن يمكن القول إنني حين أرسم أخاطب العين والذائقة البصرية، ويبدو أن طريقة الرسم أو التعبير بأسلوب "الفيغر" figure (نمط تشكيلي يظهر كتلة مركزية كجزء من مشهد أو تكوين أكبر) والمساحات اللونية المفتوحة التي قد تكون كناية عن الحرية والانطلاق، هي ما يجذب الأدباء إلى لوحتي".
روما كتاب مفتوح
لوحة جبر علوان غالبا ما تكون ذات أحجام كبيرة، وهذا ما يمنحه، وفق ما يوضح، حرية أوسع في رسم الأفكار وتحريك الفرشاة، والشعور بالانطلاق.
فسر بعض النقاد حضور هذه الكتلة التشكيلية الشبيهة بالنحت التي تسبح في فضاء لوني مترامي الأطراف، على أنه تعويض عن النحت، الذي درسه جبر أكاديميا لكنه لم يستمر فيه لأن النحت يتطلب مكانا واسعا وأدوات معينة ومجهودا اضافيا، فاستعاض عن الحجر والبرونز بالقماش والألوان ليقدم شخوصا تبدو ملامحها المشوشة الغائبة دائما خلف سحابة من الدخان أو الضباب.
وعلى الرغم من أن لوحة علوان تضج بالألوان، لكنه لا يعرف أن ينظّر لفلسفة اللون في تجربته: "صعب أن أشرح اللون. اللون يتولد على القماشة البيضاء بحسب الحالة التي تعبّر عنها اللوحة، ففي حالات الفرح تأتي الألوان الزاهية والإضاءة المبهرة، وفي حالات الحزن تسيطر الألوان الداكنة والإضاءة الخافتة. أستخدم كل الألوان وأختار اللون بما يتناسب مع حالة اللوحة، بل أحيانا اللون هو الذي يختار نفسه، فحين أرسم أكون حرا وبعيدا من العالم، تساعدني الموسيقى باللاوعي... اللون لديّ هو عنصر جمالي بحت، على خلاف نظريات الباحثين في هذا الصدد. فالأحمر ليس بالضرورة أن يكون رمزا للثورة، مثلا، أو للدماء، قد ترى في بعض الأحيان البحر مصطبغا بالأحمر في لوحتي، فهي حالات جمالية معقدة يصعب التعبير عنها نظريا. وكما تعلم فإن لوحتي ليست انعكاسا فوتوغرافيا للواقع، بل أرسم بالأسلوب التعبيري والانطباعي وأحيانا تبدو اللوحة تجريدية. أحاول خلق جماليات بصرية وفق رؤيتي التشكيلية لأعبّر عن حالات الحزن والفرح والعزلة والوحدة والتأمل".
انفتح علوان، خلال تجربته، على كل المدارس والتيارات الفنية ووجد في كل منها جماليات معينة، لكن ثمة أسماء حظيت بإعجاب خاص لديه مثل كارافاجيو (1571 - 1610) الرسام الإيطالي، الذي أضفى جوا دراميا على مشاهد لوحاته الواقعية، من خلال لجوئه إلى استغلال تفاوت الضوء والظلال، وميكال أنجلو، الأشهر من أن يعرَّف، والفنان التشكيلي الانكليزي فرنسيس بيكون الذي يتطابق اسمه مع الفيلسوف الإنكليزي الشهير فرنسيس بيكون، والنمساوي إيغون شيلي الذي عاش حياة قصيرة لكن تأثير أسلوبه التعبيري وجد طريقا إلى تجارب الكثير من التشكيليين البارزين على مستوى العالم.
كان لدينا حلم في أن نؤسس بلدا مستقرا ديموقراطيا، لكن أحلامنا ذهبت أدراج الرياح
المرأة كوكب لم يكتشف
للمرأة في لوحة جبر حضور طاغ، وتكاد تكون القاسم المشترك في مختلف مراحل تجربته، ففي بيئته الريفية كان جبر شاهدا على ما تتعرّض له المرأة من استلاب للحقوق، وهو سمّي جبرا كي يجبر قلب أمه بعدما فقدت ولدين قبله.
عرف علوان مبكرا معاناة المرأة في تلك البيئة، وما تكابده من وحدة وعزلة وانكسار، وفي روما وجد صورة معاكسة للمرأة المتحررة المنطلقة، وبين صورة المرأة المستلبة والمتحررة أهتدى جبر إلى توليفته الخاصة في التعبير عن حالات المرأة في مختلف تجلياتها، فنرى نساءه في وحدتهن وعزلتهن وحزنهن، وكذلك في حالات الرقص والحركة أو حالات الكسل والاسترخاء على الأريكة أو الجلوس في المقهى أو التأمل أو العزف على البيانو، أو حالات الوجد والعشق، أو حالات الخضوع والاستسلام واضطراب المشاعر... يتلصص جبر عبر ألوانه على النساء فيحضرن في لوحته بأعناقهن المشرئبة وقوامهن الممشوق، أو بأكتافهن المتهدلة، ونرى كذلك المرأة في عريها المتدثر بترف اللون، من دون أن ينزلق نحو فضاءات حسية مباشرة، ذلك أن علوان يعرف، بريشته المتدربة، كيف يفصل بين الإغراء الفج ومفاتن الجسد المنحوت من الضوء واللون للنساء اللواتي يظهرن كآلهات الجمال الآتيات من الأساطير الأغريقية أو الرومانية أو البابلية.
يقول: "المرأة كائن جميل، وهي كوكب مجهول لم يكتشف بعد، وبالتالي فإن حضورها في متن لوحتي هو احتفاء بها، وإعادة اعتبار إليها، وهي كائن متغير حتى بالمعنى الفيزيولوجي، فجسد المرأة، على عكس الرجل، يتعرض للتحولات من النمو التدريجي للنهد إلى مسألة الحمل والولادة والدورة الشهرية وغيرها من التغييرات التي تحث الفنان على الرسم، ولذلك نجد الكثير من التجارب الفنية احتلت فيها المرأة الحيز الأكبر".
ماذا عن العراق؟ يردّ علوان بنبرة أسى: "كان لدينا حلم في أن نؤسس بلدا مستقرا ديموقراطيا، لكن أحلامنا ذهبت أدراج الرياح. زرت العراق قبل سنوات بعد غياب عقود وشعرت بالخراب الذي يلف أرض الرافدين، والذي بدأ مع حقبة صدام، أما الآن وبعد سقوط نظامه، فإن السائد هو الدين غير الواعي، ومجموعة من اللصوص. فالحلم تلاشى، ويبدو أن روما هي ملاذي الأخير بعدما فقدت كذلك دمشق".