للوهلة الأولى يبدوان كعالمين متجاورين: عالم تحكمه قوانين وقيم الماضي وتصوراته وضروراته. وآخر يتكون على مرأى منا في شبه استقلال يحركه ذكاؤه الاصطناعي، دون أن نتمكن من فك أسراره والتعرف إلى الوجهة التي يمضي إليها.
إذا أخذنا ثلاثة صراعات قريبة منا زمنيا، وتأملنا في أسبابها وفي الأساليب التي تخاض بها، سنخرج باستنتاج يقول إن العالم لا زال يسير وفق منطق القرون الوسطى وسيادة القوة واحتقار القوانين والمعاهدات الدولية. وأن اليد العليا هي للمبررات الجيوسياسية، فيما تظل الاختلافات الثقافية والعرقية من العناصر التي لا يمكن التقليل من خطورتها، وأن المهمة الوحيدة للدبلوماسية هي العثور على مخارج من أوضاع ما فتئت تتكرر منذ مئات الأعوام ويؤدي فيها العنف والقسر والتهديد باستخدامها دورا محوريا استنادا إلى موازين القوى العسكرية والاقتصادية وإلى التحالفات الدولية الشبيهة بما كان يجري في أوروبا في مطالع القرن التاسع عشر أثناء حروب نابليون.
وليس كشفا عظيما القول إن الاحتفال بوزير الخارجية الأميركي الراحل هنري كيسنجر، بعد وفاته عن مئة عام، هو في الوقت ذاته تكريس لرؤاه السياسية في دفع سياسات القوة واستخدامها إلى الحدود القصوى. وأن السياسات هذه وإن تناقضت مع ما يفترض أن تتضمنه مواثيق الأمم المتحدة والاتفاقات الدولية، فهي تمنح الأولوية للقوة وللقدرة على وضعها في خدمة مصلحة تحددها الدولة الأقدر على استغلال عناصر قوتها العسكرية أو الاقتصادية أو الثقافية. لا كبير فرق ما دامت كل الوسائل تبرر الغايات، بحسب قول شهير لنيكولا مكيافيللي.