يتناول الأديب منازعات الشيء وضده، وبطبيعة الحال من أجل الحب والتصالح والخير والجمال في سفر خيالي يدغدغ عواطف الإنسان، إلا أن هناك أدباء يختلفون عن سواهم، آتون من أصعب الأسفار، وهم في تاريخ الأدب قلة، عاشوا الحروب والأزمنة الشائكة والظلم القبيح، والأهم أنهم شهدوا على الزوال، بدءاً من البشر والزرع، إلى اختفاء مُدنٍ بعمائرها وكل ما بها من حياة،.
هؤلاء الأدباء يأتون من الدمار، أي من الذاكرة المُغَلّفَة بالغموض، ومن يقرأ لهم يجدهم يخفون في الأعماق لغة الجدران وشقوقها، وتفاصيل كامنة في بهو الذاكرة عاشوها يوماً، وغالباً تأخذنا سطورهم إلى كشف اللغز عن كل شخص رحل في هذا الدمار، بالمقابل كيف تتحول رغبته في استعادة التوازن أمام المكائد البائسة، وكأنه مشحونٌ لوضع المسار الصحيح للإنسانية، وفي ذات الحالة مؤمنٌ بأن وجوده كالعدم... فينفرد ويعتزل. ونحن نعلم أن عملية العزلة لهؤلاء، من أجل نشاط انفرادي فكري، بلا شك شائكة وصعبة، فهو يتهيأ لاستحضار مصائرهم كلهم، من خلال مدينة مسلوبة أو سويت بالأرض أو أصبحت شبحاً، ولعل الأمثلة تفيدنا مثل مدينة أفسس وتدمر في التاريخ القديم ووارسو وبرلين قبل عقود... واليوم غزة.
في أدب الحروب، تلك التي خاض واقعها امثال إرنست هيمنغواي وجي آر تولكين وكليف لويس، نجد رزمة من الأسئلة تواجه هذه الحقيقة البشعة، وهم يغذون سطورهم، وكأن خلاياهم مدعومة بحلم الشعور بالتخلي عن الواقع الملون، رفضوا الدعوات الاجتماعية، والارتباطات، وحتى الندوات التي تشبه من يتحدثون فيها بنجومية زائفة، وابتعدوا عن المشاركة والأنشطة في مؤسسات لا مفر لها من قيامها بذلك وبشكل مستمر.
في أدب الحروب، تلك التي خاض واقعها امثال إرنست هيمنغواي وجي آر تولكين وكليف لويس، نجد رزمة من الأسئلة تواجه هذه الحقيقة البشعة
كانوا مع أنفسهم فقط، راقبوا تيارات الحياة وهي تجري أمامهم، ويقرأون بحرص كل المحافل والحشود والأصوات، وأصبحوا مع الوقت عاجزين عن تغيير الواقع الذي أمامهم وهو يمر.
هؤلاء النادرون لم نجدهم مع التيارات التوعوية المستمرة في الإعلام والفضاء، وأمام المطالبين بالعدل، كانوا مع أنفسهم فقط في عزلة الكتابة، صوتٌ مكتوب، يكتبون بهدف تحقيق شيء من التنوير المستمر، والأبدي لا الآني، وإعادة ذاكرة المدينة المدمرة من الحرب وعلى حقيقتها ومرارتها من خلال إنتاجهم فقط، من شعر أو رواية أو قصة... في الوصف والسرد والمشاعر الداخلية، دون الخوض في التيارات الصوتية المنظمة في الخارج.
أعمقهم لم يكونوا قط نجوماً في سماء المظهر، لم ينشغلوا سوى بمستقبل الأدب، واستعادة المصائر، فسافروا إلى رحلة العدم وهم أحياء، وكتبوا في عزلة لإعادة الخلق، وكشف السلطة المراوغة بسطورهم العميقة لا بالزعاق، مثل السطور القديمة النادرة التي غيرت الكثير من القوانين بعد عقود وحتى قرون... ليبقى في البرج العاجي كما ينبغي.
نعلم أن أدباء اليوم ملتصقون أكثر بشبكات التواصل الاجتماعي، حيث بدأ التنافس في الظهور بينهم، ومع المشاركة والصخب، لم يعد الأديب كما كان قبل نصف قرن أو حتى أقل، حيث عزلته التي كانت تمنح له السر الأصيل للكتابة، وقراءاته بعيدة عن التواصل مع الناس، سوى في نطاق محدود، كانت رغبته الحقيقية فك لغز العالم، أثناء الكتابة، واستحضار الخيال، الذي ساعد على تقديم ذاكرته وتاريخ المدن الشبح في لغته ببلاغة وفن، كما فعل سالينجر ومحفوظ وبروست.
لا شيء سوى العزلة من أجل عمل مختلف، عزلة تحول المدن التي سويت بالأرض، إلى أكثر الموضوعات خلوداً ضد النسيان، بل ذاكرة تعيد عدالة الزمن لأجيال قادمة ونزيهة، بأسئلة لا يطرحها سوى هؤلاء.