فيليب غوستون... رسّام نيويورك المطارد حتى بعد موتهhttps://www.majalla.com/node/308231/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%81%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%A8-%D8%BA%D9%88%D8%B3%D8%AA%D9%88%D9%86-%D8%B1%D8%B3%D9%91%D8%A7%D9%85-%D9%86%D9%8A%D9%88%D9%8A%D9%88%D8%B1%D9%83-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B7%D8%A7%D8%B1%D8%AF-%D8%AD%D8%AA%D9%89-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D9%85%D9%88%D8%AA%D9%87
لندن: كان من الصعب تفسير موقف عدد من المتاحف حين قرّرت إرجاء إقامة معارض استعادية للفنان الأميركي فيليب غوستون (1913 ــ 1980) قبل سنوات. قيل يومذاك وبعدما تراجعت تلك المتاحف ومن بينها "تيت مودرن" بلندن الذي يقيم له حاليا معرضا كبيرا، إن سبب ذلك الإرجاء انما يعود إلى موقفه الشديد التطرف من العنصرية. كانت هناك رغبة في أن لا تُفتح ملفات التاريخ الأميركي المعاصر المليئة بالصفحات السود ومنها صفحة "كو كلوكس كلان"، وهي المنظمة العنصرية التي تبنت العنف في التعامل مع الآخر غير الأبيض وفي الأخص ذوي الأصول الأفريقية.
هذا ما بدا واضحا في المعرض الحالي. هناك مرحلة، ركز فيها غوستون على الأقنعة المثلثة البيضاء في الوقت الذي يستعرض فيه من حولها عالمه المكتظ بالأشياء التي تشير إلى الحياة بتدفق معانيها الإنسانية. لقد دان الرسام الذي يعتبر واحدا من أهم مؤسسي "مدرسة نيويورك" في نهاية أربعينات القرن العشرين، السلوك العنصري الذي طغى على الشخصية الأميركية في واحدة من أهم مراحلها التاريخية حرجا، وهذا كما يبدو قد أزعج المؤسسة الرسمية الأميركية التي لا تزال تشعر بالغيظ من رسام وصفه الفنان المكسيكي ديفيد سيكيروس في حينه بأنه "أحد الرسامين الواعدين سواء في الولايات المتحدة أو المكسيك". وعلى الرغم من أن سنوات "كو كلوكس كلان" صارت جزءا من الماضي، فإن استعادة رسوم غوستون لا تزال صادمة. فهي تمزج العنف بالسخرية. سيكون علينا ونحن نشاهدها أن نقف أمام يوميات قرّر كاتبها أن يجازف بحياته في مواجهة عصابات شريرة، كان الحرق على الصليب شعارها.
بدأ غوستون سورياليا من خلال استعادة مشاهد من رسوم رسامي عصر النهضة والسخرية الهادئة منها غير أنه انتقل إلى التجريدية التي لم يلبث فيها طويلا
من خيال الفنان إلى خيال المتلقي
المعرض الاستعادي الذي تقيمه "تيت مودرن" بلندن لفيليب غوستون يكشف عن وجوهه الفنية المتعدّدة. فالرجل لا يمكن اختصاره بمرحلة التصدّي لعصابات "كو كلوكس كلان". هناك ما قبلها وما بعدها. كان الرسام في تلك المراحل مخلصا لما طرأ على أفكاره عن الرسم من تحوّلات، سيكون علينا أن ننظر إليها خارج الأفق السياسي الضيق. كان ابن بيئته الثقافية التي شهدت تحولا سريعا في مزاجها البصري. بدأ غوستون سورياليا من خلال استعادة مشاهد من رسوم رسامي عصر النهضة والسخرية الهادئة منها غير أنه انتقل إلى التجريدية التي لم يلبث فيها طويلا إذ انتقل بعدها إلى تعبيرية نقدية، صار من خلالها أكثر حرية في معالجة مشكلاته اليومية.
تلك مرحلته الوصفية، لكن تقنياته أضفت عليها الكثير من الخيال. كان في تلك المرحلة يرسم أحلامه. وليس مصادفة أن تشبه تلك الأحلام أحلام محبي أعماله ممَن وجدوا فيه ممثلا لشغبهم الروحي. وبعد مرحلة انشغل فيها بتعبئة الخط مجردا بطاقة تعبيرية قوية، انتقل إلى رسم حياته الشخصية، بدءا من صورته التي رسمها بالحبر على الورق. كانت تلك مرحلة الحياة اليومية بكل مفرداتها التي لم يجد الرسام مانعا من رسمها متفرقة من غير أن يشعر بالحاجة إلى إقامة علاقات موضوعية في ما بينها.
لم يكن غوستون في كل رسومه يولي الموضوع المباشر عناية خاصة. كان الإيحاء بالتجربة الإنسانية هو مركز اللوحة بعدما ألغي المركز البؤري للشكل الموحّد. لذلك فإن الأشياء المتناثرة يمكن أن تقود إلى مركز متخيل لا يقع على سطح اللوحة بل في عقل المتلقي وخياله بعد أن يكون قد نضج مختبريا في خيال الرسام. وهذا ما يعني بالضرورة أن متلقي رسوم غوستون سيحتاج بالضرورة إلى أن يشقى فكريا قبل أن يكتشف الأبواب التي ستقوده إلى الشعور بالمتعة.
رجل نائم يمكنه أن يحلم ويفكر ويتأمل ويحتج ويعترض ويقاوم ويغضب ويستفز ويعترض
أحداث وصور
"صانع صور" هو واحد من أهم ألقاب فيليب غوستون. ولكن أية صور؟ في سن السابعة عشرة من عمره، رسم الأمومة مستلهما الصور الدينية التي رسمها عباقرة الرسم في عصر النهضة. لكن اللوحة المعروضة في مقدمة المعرض تكشف عن موهبة خارقة لا في التقليد فحسب بل أيضا في التحدي ومعالجة الأصل نقديا من خلال السخرية بأسلوب سوريالي. كل تلك الموهبة الممزوجة بالخيال دفعت الرسام إلى أن يقيم معرضه الشخصي الأول وهو في سن العشرين (عام 1933) في واحد من أسواق الكتب بهوليوود/ لوس أنجليس. تلك بداية فتحت أمام الفنان أبواب صالات العرض في نيويورك التي انتقل الى العيش فيها. كانت نيويورك في بداية حراكها الثقافي الذي سعت من خلاله أن تكون مركزا للفن العالمي بدلا من باريس ولندن. كانت أمركة الثقافة الفنية العالمية هي الخلفية التي اصطدم بها غوستون وفنانون آخرون يوم انتهوا بتجاربهم الفنية إلى التجريدية التعبيرية نهاية أربعينات القرن العشرين.
في المعرض الحالي هناك عدد من اللوحات تُذكّر بتلك المرحلة وهي لوحات لا يزال هناك حتى اللحظة من يقلدها على الرغم من أن رسامها كان قد فارقها كأنه أسف لأنه رسمها. بعد الأربعينات لم يعد غوستون إلى التجريد. في واحدة من أهم مراحله رسم مدنا أقام فيها. عاش غوستون في أوروبا بدءا من روما وصولا إلى ريكيافيك عاصمة أيسلندا. رسم في الشمال الأوروبي اللاشيء في أقوى صوره تأثيرا.
في واحدة من أهم لوحاته، رسم غوستون نفسه نائما. ذلك الشخص النائم يمكن أن يتحول إلى فكرة بيسر وبسرعة. لا أعتقد أن غوستون أراد أن يصنع رمزا. لكن القشعريرة التي يشعر بها ذلك الشخص يمكن أن تنتقل منه إلينا. ليس ذلك فقط. الحذاء الذي لطالما رسمه غوستون في عدد من لوحاته كان حاضرا في مقدمة اللوحة. بل أن ذلك الحذاء وقد رسمه رماديا كان الأكثر تأثيرا على النظر.
في حقيقة موقفه لم يرسم غوستون ذلك الشخص النائم إلا من أجل تذكير المتلقي بموقفه السلبي البارد مما يجري من حوله. لم يتخلّ عن موقفه السياسي الغاضب حتى في صوره الشخصية. من وجهة نظره فإن الحقيقة والتقنية وحدهما تمكنان المرء من تغيير الواقع. في تلك اللوحة اجتمعت الحقيقة والتقنية. رجل نائم يمكنه أن يحلم ويفكر ويتأمل ويحتج ويعترض ويقاوم ويغضب ويستفز ويعترض كأنه جمع من البشر. وذلك ما سيكونه واقعيا. فبعد أكثر من أربعين سنة من وفاته لا تزال رسوم فيليب غوستون تثير زوبعة مشاعر في نفوس مشاهديها.