لم يحدث في تاريخ الحروب العربية- الإسرائيلية أن استمرت حرب لفترة تجاوزت الأعمال القتالية الرئيسة فيها مائة يوم، باستثناء الحرب الأولى التي استمرت نحو ثمانية أشهر من منتصف مايو/أيار 1948 إلى منتصف يناير/كانون الثاني 1949 وتخللتها هُدن كان مجموعها حوالي ثلاثة أشهر. غير أن حرب غزة الراهنة مرشحة لأن تصبح الأطول على الإطلاق، فى ضوء إعلان الجيش الإسرائيلي أنها ستستمر طول عام 2024 في صورة مراحل متوالية.
كانت حروب 1956 و1967 و1973 قصيرة، قلّت فترة كل منها عن شهر واحد. وزادت عنها فترتا حربي لبنان في 1982 و2006 (نحو شهرين ونصف، وشهر وأربعة أيام، على التوالي) ولكن في حرب 1982 بقيت قوات إسرائيلية في جنوب لبنان، بعد انتهاء العمليات القتالية الرئيسة ومغادرة قوات منظمة التحرير وقادتها، حتى 1985.
أما حروب غزة السابقة فكان أطولها في 2014 لمدة 50 يوما. وفضلا عن أن حرب 2023-2024 تجاوزت يومها المائة، ومرشحة لمزيد دون تحديد حتى الآن، فهي من أكثر الحروب ضراوة منذ 1948، رغم أنها بين أحد أقوى جيوش العالم وأكثرها تسليحا وتدريبا واعتمادا على أحدث التقنيات العسكرية وتقنيات الذكاء الاصطناعي في جانب، وفصائل صغيرة الحجم ومحدودة القدرات في الجانب الثاني، فضلا عن أنها تدور في مساحة ضئيلة لا تتجاوز 360 كيلومتر مربع.
بدأت حرب غزة الراهنة بين طرف ضعيف لكنه مستعد، وطرف قوي لكنه لم يكن جاهزا بدرجة كافية على المستوى العملياتي
لماذا، إذن، تطول هذه الحرب عن سابقاتها؟
تُقدَّم معادلة "ضعف القوة وقوة الضعف"، مدخلا للجواب عن هذا السؤال، مثلما كان الحال في حروب سابقة منذ حرب فيتنام أواخر الستينات وأوائل السبعينات، وحتى حرب أفغانستان الثانية التي استمرت لما يقرب من 20 عاما (2003-2022).
العلاقة بين القوة والضعف مُعقدة تتأثر بظروف ومتغيرات تحول دون انتظامها في نمط واحد. فقد لا يكون الأقوى قويا طول الوقت، وربما يبدو الضعيف قويا في وقت آخر. يمكن لطرف ضعيف أن يُحوَّل ضعفه إلى قوة إن استطاع إيجاد وسائل القتال الملائمة، التي تُقلل أثر الفرق في ميزان القوى حين يكون شاسعا. وقد لا يستطيع الطرف الأقوى استخدام تفوقه مهما يكون كبيرا بالطريقة الأكثر فاعلية لتحقيق أهدافه بسرعة أو في وقت معقول.
يملك الأقوى عادة قدرات تسليحية كبيرة تفوق ما لدى الضعيف. ولكن الأسلحة لا تقاتل في الميدان. يستخدمها مقاتلون لتحقيق أهداف مُحدَّدة. ولهذا قد لا يكون الجندي أو المقاتل في الطرف الأقوى قويا بما يكفي، وربما لا يكون نظيره في الطرف الأضعف ضعيفا في الميدان. الروح تلعب دورا أساسيا في هذه المعادلة. الروح المعنوية وإرادة القتال تُشكلان جزءا مهما في معادلة تتأثر أيضا بطبيعة الحرب الهجينة (Hybrid) أو غير المتماثلة، أو غير المتناظرة. فهذه الحرب التي تدور بين قوات نظامية وجماعة مسلحة هي الأصعب بالنسبة إلى أي جيش أيا كانت قوته. وكلما استطاعت الجماعات غير النظامية تنظيم صفوفها اعتمادا على خطة مُعدة جيدا، تزداد الصعوبات التي تواجه الجيوش النظامية في الحروب ضدها.
وتزداد قدرة مثل هذه الجماعات على تحويل ضعفها إلى قوة إذا كانت هي من بدأ الحرب على حين غرة. وهذا هو ما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول عندما فوجئ الجيش الإسرائيلي بهجوم لم يكن متوقعا، بل كان غير مرجح بالنظر إلى الأحداث التي سبقته، والرسائل الخادعة التي وجهتها حركة "حماس" بشأن اهتمامها بإعمار غزة وتحسين مستوى الحياة فيها، وليس بخوض حرب جديدة ضد إسرائيل.
بدأت حرب غزة الراهنة، إذن، بين طرف ضعيف لكنه مستعد، وفي حالة جاهزية كاملة ولديه خطة مُحددة تدرب مقاتلوه عليها، وطرف قوي لكنه لم يكن جاهزا بدرجة كافية على المستوى العملياتي، ولا خطة واضحة لديه، فدخل الحرب اعتمادا على منهج التجربة والخطأ. وهذا المنهج بطابعه يُطيل أمد أي عمل بشري مدنيا كان أو عسكريا.
العامل السياسي الداخلي، الذي كان أحد أهم مصادر قوة إسرائيل في الحروب السابقة، تحول إلى مصدر ضعف هذه المرة
لم يكن لدى الجيش الإسرائيلي، على سبيل المثال، بنك أهداف عسكرية مُحددة. فكان عليه أن يبحث عن هذه الأهداف في الميدان، سواء مواقع القيادة والسيطرة في القطاع عموما، وفي كل محافظاته، بدءا بالقطاع الشمالي ونزولا إلى الجنوب، أو قادة حركة "حماس" وجناحها العسكري (كتائب القسام)، وكذلك الحركات الأخرى، أو الأسرى الذين خُطفوا خلال هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. ويحتاج العثور على أهداف خلال القتال وقتا أطول بطبيعة الحال مقارنة بتحديد مواقعها مسبقا، والذهاب إليها بشكل مباشر.
كما أن العامل السياسي الداخلي، الذي كان أحد أهم مصادر قوة إسرائيل في الحروب السابقة، تحول إلى مصدر ضعف هذه المرة لسببين. الأول طبيعة الحكومة القائمة، التي يعتقد نحو نصف الإسرائيليين أنها الأكثر تطرفا في تاريخهم، وسعيها إلى التملص من مسؤوليتها عن الفشل الذي حدث في مواجهة هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وتحميل الجيش والأجهزة الأمنية هذه المسؤولية. وتعد هذه هي المرة الأولى التي تخوض فيها إسرائيل حربا في ظل حالة عدم ثقة بين القيادتين السياسية والعسكرية اللتين كانتا على قلب رجل واحد في الحروب السابقة كلها.
والسبب الثاني هو الخلافات التي احتدمت ليس بين الحكومة والمعارضة فقط، ولا في الائتلاف الحكومي نفسه فحسب، بل في داخل مجلس الحرب الثلاثي. واختلطت الخلافات على مسار الحرب واليوم التالي لها باستعدادات مبكرة للانتخابات التي ستجرى بعدها. وبدا صعبا في بعض الأحيان التمييز بين خطاب سياسي- عسكري يتعلق بالقتال الدائر، وخطاب انتخابي مبكر. ويُضاف إلى ذلك القلق الناتج عن وجود أسرى في غزة، وضغوط عائلاتهم من أجل إعطاء أولوية لإعادتهم.
وفي المقابل كان الطرف الأضعف قد أعد عدته لتعظيم نقاط القوة المحدودة التي يملكها، واستهداف مكامن الضعف لدى الطرف الأقوى، اعتمادا على خطة مدروسة تقوم على دفاع استراتيجي وهجوم تكتيكي. ليس في إمكان الفصائل التي تقاتل في غزة مجاراة الأنظمة التسليحية والتقنية الحديثة والمُعقدة لدى الجيش الإسرائيلي. ولهذا سعت إلى إعاقتها وتعطيلها أو إعطابها، وحاولت تعويض تواضع أسلحتها شبه البدائية بالاعتماد على تكتيكات عسكرية مُبتكرة، واستثمار استعداد مقاتليها للموت وعدم الخوف منه.
رغم أن الطرف الأضعف تمكن من الفوز في حروب هجينة سابقة، يبدو أن النتيجة ستكون مختلفة في حرب غزة الراهنة
طورت هذه الفصائل أساليب غير مألوفة في استخدام قذائف صاروخية متواضعة، وصواريخ أرض-أرض محلية الصنع أو مُطورة من قاذفة "RPJ" التي صارت قديمة، إذ تعود إلى عام 1962، وقاذفة كاتيوشا الأقدم التي استُخدمت في الحرب العالمية الثانية، وعبوات ناسفة طُورت لمواجهة دبابات ميركافا الأكثر تحصينا بين المدرعات الحديثة، إلى جانب ما بدا أنها أعداد محدودة من بنادق صينية الصنع مُهربة إلى غزة.
فعلت معادلة "ضعف القوة وقوة الضعف" فعلها إذن، في مسار الحرب فأطالتها. ولكن بالرغم من أن الطرف الأضعف تمكن من الفوز في حروب هجينة سابقة، يبدو أن النتيجة ستكون مختلفة في حرب غزة الراهنة؛ فالمشهد كما نراه بعد أكثر من مائة يوم يدل على أن الحرب تتجه إلى أحد احتمالين. الأول انتصار الطرف الأقوى، الذي استفاد من تجاربه الأولى والأخطاء التي حدثت فيها، وتمكن من تطوير أدائه واستثمار قوته. ويزداد هذا الاحتمال بمقدار ما يطول أمد الحرب فتقل قدرة الطرف الأضعف عددا وعُدة في غياب أية إمكانية لتعويض الخسائر. غير أن إطالة أمد الحرب بلا مدى زمني مُحدد، وحتى تحقيق هذا الانتصار، ليست قرارا إسرائيليا مفردا، إذ يتطلب استمرار الضوء الأخضر الأميركي. ويتوقف استمرار هذا الضوء من عدمه على التفاعلات الداخلية المرتبطة باقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني.
وأما الاحتمال الثاني فهو وضع مُعلق حيث يحقق الطرف الأقوى بعض أهدافه، وليست كلها، ويحتفظ الطرف الأضعف ببعض القدرات، على نحو يتيح لكل منهما إعلان أنه المنتصر.
وفي الحالتين تبقى مأساة سكان غزة هي التحدي التاريخي أمام المجتمع الدولي.