في الحرب اللبنانية، ما كان حربا أهلية أو عدوانا إسرائيليّا، تكشّف الكثير من المزايا والمواقف الإنسانية، وأيضا من المواقف العبثيّة.
كنّا نلتقي في الملاجىء حين يشتدّ القصف أو تتعرّض بيروت لغارة إسرائيلية. وفي الملاجىء، في حالات الهلع تسقط الأقنعة وينكشف الضعف الإنسانيّ أو يحضر موقف الصّمود. والأمر نفسه حيثما صادف وجود المواطنين تحت القصف.
كنت أقيم مع أسرتي في أحد أحياء منطقة المزرعة في العاصمة بيروت، غير بعيدٍ عن ثكنة المير بشير، وعلى بعد أمتار قليلة من مباني الجامعة اللبنانية، في ما عُرِف أثناء الحرب ولا يزال يُعرَف باسم بيروت الغربيّة.
في موجةٍ من موجات القصف صادف وجودي مع طفلتي في بيروت منفرِدتين، في غياب بقية أفراد الأسرة. دعتنا صديقةٌ تقيم قريبا من شارع الحمراء للانتقال إلى بيتها طلبا للحماية.
رحتُ أتأمّل في حالة التّضادّ بين هذا السائق الذي ينقذ امرأة مجهولة إكراما لعصفور، وبين القذائف المُتَبادَلة بين الأحياء من الجهتين، لتستهدفَ مواطنين مجهولين أبرياء
ذهبنا، بعد أن عهِدتُ بالعصفور العزيز إلى الجيران الذين قرّروا البقاء في المبنى. لكنّ القصف على المنطقة الغربيّة تزايد واتّسَع، والحالة الأمنيّة زادت سوءا. فاتّصل بي الجيران الذين استقبلوا العصفور وأبلغوني أنهم ذاهبون إلى الجبل، كان ذلك يعني ضرورة استرداد العصفور.
تركت ابنتي في رعاية الأصدقاء وذهبتُ لإحضار العصفور.
لدى العودة، حملت القفص ووقفت على رصيف شارع المزرعة، أمام صيدلية اليونسكو، ولم يكن القصف قد توقَّف. ولم يكن في ملابسي ما يدلّ على انتمائي الدينيّ أو غيره.
حاولتُ مرارا إيقاف سيارة أجرة. لكنْ، عبرَتْ سياراتٌ عديدة مسرعة دون توقّف. وكدتُ أيأس وأمضي سيرا على الرغم من بُعد مكان اللجوء حيث تركت ابنتي الصغرى.
فجأة عبرَت سيارة مسرعة. ثمّ زعق صوتُ الكابِح. توقَّفَت السيارة وتحرَّكَتْ رجوعا لتتوقَّف إزائي.
سألني السائق عن وجْهَتي. أجبتُ أنّه نهاية شارع الحمراء. قال: "اصعدي، سأرى أين أقدر أن أصل. يمكنك أن تمشي قليلا". وبدأ يخبرني عن سبب خروجه في هذا الظرف الخطير. قال:
"لم أخرج للعمل، فالوضعُ غير مناسب، بل كنت أشتري الخبزَ لأولادي. لكن... امرأة وعصفور تحت القصف... العصفور... العصفور سيخاف... اصعدي. سأرى أين أقدر أن أصل".
صعدتُ إلى السيارة مع العصفور المُنقِذ، بينما أصواتُ القذائف تتوالى. لم يسأل هذا السّائق الكريم عن هويّتي أو مذهَبي أو عن انتمائي السياسيّ. بينما القتلُ على الهوية لم يغِبْ عن الحرب الأهليّة.
أوصلني إلى مكان مُوازٍ لشارع الحمراء، غير بعيد عن العنوان الذي أقصده.
رفض تناولَ المبلغ الذي حاولت أن أعطيه له كأجرة، رغما عن إلحاحي. وقبلتُ من كرَمِه رغيفا.
تركتُ المبلغ على المقعد تحت رزمة الخبز ونزلت مع العصفور.
ورحتُ أتأمّل في حالة التّضادّ بين هذا السائق الذي ينقذ امرأة مجهولة إكراما لعصفور، وبين القذائف المُتَبادَلة بين الأحياء من الجهتين، لتستهدفَ مواطنين مجهولين أبرياء.
كثيرٌ من عبثيّة الحرب الأهليّة وتناقضاتها وعِبَرِها كان صارخا في هذا الحدَث العفويّ الكريم البريء.
شكرا أيها العصفور، وألف شكرٍ يا صديق العصافير.
وآهٍ ثمّ آهٍ يا بيروت الحبيبة!