ليس في تاريخ كرة القدم من يجسّد مختلف مستويات اللعبة، الفردية والذهنية والاجتماعية، مثل الألماني فرانز بكنباور الذي لقب بـ "القيصر" وفارق الحياة قبل أيام. فإن كان للعب فاعلية نفسية وغرائزية لتحسين البدن والتكيف الإنساني، فإن بكنباور خُلق من أجل اللعب، إذ أن الجري والانضباط والتركيز والحفاظ على طاقة الجسد صفات خُلقت معه. وإن كان للقيادة تاريخ عبر كرة القدم فسيكون بكنباور حاضرا فيه، فما أن توقفت قدماه عن الجري حتى أصبح لوقوفه الصلب الصامت بجانب الملعب دور مهم أيضا. لم يكن لتوقف قدميه عن الركض سوى منشأ لدلالة أخرى، في أن يثبت البدن ويتحرك الجسد، ثم يصبح اللعب الذي بدأ فيه نسقا اجتماعيا وقياديا، وتتحول كرة القدم معه إلى هوية ونسق للاجتماع والتواصل والخَلْق.
ألمانيا بعد الحرب
كانت ألمانيا منهكة من الحرب العالمية الثانية، ولأن بناء ألمانيا كان سريعا، كان على والد فرانز بكنباور دفعه نحو دراسة أي شيء يجعله في حال أفضل اجتماعيا ومهنيا، لكن فرانز أصرَّ على كرة القدم، على الرغم من استخفاف الأب. كانت كأس العالم في عام 1954 رافعة اجتماعية لألمانيا، فالزهو والنصر بعد حربٍ دامية وانكسار قومي كبير، جعلا رد فعل الشباب نحو الرياضة كبيرا أيضا. كان تكيُّف بكنباور الاجتماعي يمرّ عبر اللعب، وحتى أخلاقياته تكيّفت وفقا لصور اللعبة ومستقبلها وباعتبارها مشروعا للحياة، فاختار بايرن ميونيخ في ستينات القرن الماضي بدلا من النادي الذي يحلم باللعب فيه، فقط لأنه شهد عراكا بين لاعبي الفريق الذي حلم به. لم يبتعد فرانز يوما عن أخلاقية معينة ترافقه، أخلاقية اللعبة أو أخلاقية النجاح، فالتمرّد على الأب بدا تكيفا مذعورا وواثقا من أجل النجاح، وقد تكيّف جسده وذهنه وسلوكه لتحقيق هذا الهدف.