هناك تغيّر في نظرة العالم تجاه أحداث غزة. فخلال الأشهر الثلاثة الماضية، ومنذ هجوم "حماس" الوحشي على إسرائيل، عانى سكان قطاع غزة من حالة الحرمان المرعبة والخسائر، حيث بلغ إجمالي الوفيات المبلغ عنها أكثر من 22,000 شخص، معظمهم من النساء والأطفال. ولوضع هذا الرقم في منظوره الصحيح، قتل خلال "الاضطرابات" في أيرلندا الشمالية، والتي استمرت لحوالي ثلاثين عاما، أكثر من 3,000 شخص بقليل، ونصفهم فقط كانوا من المدنيين.
دعمت الدول الغربية بشكل رئيسي حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وكان الأميركيون على وجه الخصوص غير راغبين في إدانة تصرفات الجيش الإسرائيلي. وربما تكون فرنسا هي الأكثر انتقادا للرد الإسرائيلي. إلا أن الغضب الحقيقي اقتصر على الشارع، حيث شهدنا في كثير من الأحيان مظاهرات حاشدة مؤيدة للفلسطينيين.
الآن، وبينما أصبحت حالة السكان المدنيين مأساوية للغاية، وأصبح تعنّت الحكومة الإسرائيلية اليمينية واضحا للغاية ايضا، رحنا نسمع صدى مصطلح "الإبادة الجماعية" يتردد في مستويات تجاوزت الشارع، بل بدأ يدخل في المفردات الدبلوماسية. ففي تركيا، ذهب رئيسها رجب طيب أردوغان إلى ما هو أبعد من اتهام إسرائيل بارتكاب جرائم الحرب، من خلال مقارنة نتنياهو صراحة بهتلر.
لكن المثال الأكثر سطوعا هذا الأسبوع، هو زيارة العاهل الأردني عبد الله الثاني إلى النصب التذكاري للإبادة الجماعية في كيغالي في رواندا، إذ كان اختيار الموقع بليغا في حد ذاته. بدأ الملك كلامه بالحديث عن الجرائم "التي لا يمكن وصفها" التي ارتكبت خلال ذلك الصراع الأفريقي، ثم انتقل إلى إدانة "العدوان العشوائي" الإسرائيلي في غزة، واصفا إياه بأنه أسفر بالفعل عن جيل كامل من الأيتام وأن مثل هذا العنف لا يمكن أن يضمن أمان إسرائيل أبدا.
يشكل الطلب الذي قدمته جنوب أفريقيا إلى المحكمة الدولية تحولا هاما آخر في اللهجة. فلأول مرة، تقدّم دولة ذات سيادة اتهاما ضد دولة إسرائيل بـ "نية الإبادة الجماعية." وفي وثيقة تزيد عن ثمانين صفحة - وهي قراءة محزنة للغاية - أعدت قضية قانونية شاملة ضد سلوك إسرائيل.
وردا على ذلك، رفضت إسرائيل اتهامها بأنها تقوم بقتل آلاف المدنيين الفلسطينيين عمدا واصفة الاتهام ب "فرية الدم." سارع الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ إلى رفض الوثيقة قبل تقديمها إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي واصفها إياها بأنها "سخيفة." حيث تتهمه الوثيقة شخصيا بأنه كتب بنفسه رسائل على القنابل قبل أن تُلقى على السكان المحاصرين في غزة. ويُنسب له أيضا قوله في 12 أكتوبر/تشرين الأول:
"إن الأمة (الفلسطينية) بأكملها مسؤولة عما حدث... وسنقاتل حتى نكسر ظهرهم." وتُعتبر هذه التصريحات، في إطار وثيقة الاتهام، بمثابة تجريم ذاتي.
في عهد نظام الفصل العنصري، كانت هناك علاقة ودية بين إسرائيل وجنوب أفريقيا، على الرغم من حقيقة أن العديد من قادة الأفريقان البيض (المتحدرين من المستوطنين الاوروبيين) في تلك الفترة كان لديهم تاريخ من معاداة السامية. وكُرّم جون فورستر، رئيس الوزراء آنذاك، خلال زيارته إلى القدس في عام 1976، على الرغم من اعتقاله خلال الحرب العالمية الثانية بسبب تعاطفه مع النازية وانتمائه إلى ميليشيا فاشية أحرقت الممتلكات العائدة لليهود.
لكن منذ إطلاق سراح نيلسون مانديلا، تدهورت هذه العلاقة. و تقليديا، يرى حزب المؤتمر الوطني الإفريقي أن النضال الفلسطيني يعادل نضالهم ضد نظام الفصل العنصري. وفي عام 2019، خفّضت جنوب أفريقيا تصنيف سفارتها في تل أبيب إلى مكتب ارتباط بعد قتل الجيش الإسرائيلي لأكثر من 220 متظاهرا فلسطينيا داخل غزة، معظمهم من المدنيين العزّل، خلال أشهر من الاحتجاجات. ووصف حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحكومة والجيش الإسرائيليين بـ "المنبوذين الذين يشكلون عارا على الإنسانية."
لن تتحسن العلاقات بفعل هذه الخطوة الأخيرة، ولا بفعل اختيار جون دوغارد لقيادة الفريق القانوني لجنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية. وشغل دوغارد منصب المقرر الخاص للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في فلسطين المحتلة خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. واتهمت تقاريره الجيش الإسرائيلي بارتكاب جرائم حرب، ووصف أيضا كيف تورطت الدولة الإسرائيلية في مسألة "إرهاب المستوطنين" وبنت نظاما للهيمنة اليهودية يعادل نظام الفصل العنصري.