زار الرحالة الألماني هرمن بورخاردت اليمن عامي 1891 و1909 وقدم وصفا عن رحلته الأولى، ترجمه إلى العربية أحمد الصائدي في كتابه "اليمن في عيون الرحالة الأجانب" وهي الرحلة التي بقي خلالها عاما بين يهود اليمن. كما نُشر وصفٌ لرحلته الثانية، والتي لقي في نهايتها حتفه، كتبه مرافقه اليمني أحمد بن محمد الجرادي وهو الشخص الذي ينسب إليه تدوين الحكايات التي حقّقها عبدالرحمن السقاف الطهيفي ونُشرت عن دار الكتب اليمنية استنادا إلى مخطوط عثر عليه في المكتبة الوطنية بالقدس ضمن أرشيف هيرمن بورخاردت. ولم يخبرنا المحقق عن وجود عنوان جامع لهذه الحكايات اليمنية التي بلغ عددها 35 حكاية لكنّه اختار لها عنوان "الف ليلة وليلة اليمنية" تشبها بالكتاب الشهير الف ليلة وليلة.
الكتاب الذي بين أيدينا لا يشبه كتاب الحكايات الشهير إلا من باب احتوائه لبعض القصص الخيالية، إذ يظلّ مفتقدا لسلاسة اللغة العربية شبه الفصيحة والتي ينتقل عبرها السرد من حكاية إلى أخرى بتشويق لافت تتوالد عبره القصص إلى ما لا نهاية، في ما جاء الكتاب اليمني مكتوبا بلهجة صنعاء والمناطق المجاورة لها حتى إن القارئ اليمني سيبذل جهدا لمعرفة الكثير من المفردات التي شرح المحقق معناها في هوامش كلّ صفحة فما بالكم بالقارئ العربي. لهذا فإنّ أوّل ملاحظة يمكن أن ترد للقارئ هي مدى إمكانية إعادة صياغة الحكايات بلغة عربية سهلة على غرار الف ليلة وليلة لتصل إلى أكبر عدد من القراء.
قبل أشهر أهداني المحقق الكتاب ولم أستطع إكمال قراءته لصعوبة بعض المفردات العامية. ولولا سؤال صديق عراقي وباحث فرنسي في اليوم نفسه عن الكتاب لما رجعت إليه لأقرأه. فهناك الكثير من الخلل في الصياغة، إضافة إلى بعض كلمات اللهجة اليمنية القديمة التي لم تعد متداولة. إلى جانب ارتباك بدا واضحا في بعض ما قام به المحقق إذ خلط في القصّة الأولى بين المبلغ الذي سافر فيه الوالد إلى الحج وبين المبلغ الذي تركه ابنه أمانة لدى أحد الثقات قبل أن يلحق بأبيه، فقام بتصحيح رقم المبلغ ظنا منه أنه نفسه. ومع أن المحقق قام بجهد لافت في ضبط الكلمات وتشكيلها لتتواءم مع إيقاع اللهجة الصنعانية، لا نعرف ماذا قصد حين قال إنّه قام بتهذيب بعض عبارات الحكايات مراعاة لما "لا ينسجم مع السياق والذائقة العامة” وقال في المقدِّمة إنّه ترك بعض الحكايات ولم يُضمِّنها هذا الكتاب على أمل أن تصدر في جزء ثان.
هناك قصص غرائبية مشوقة وأخرى واقعية فيها الكثير من التأمل والحكمة اعتادت الكتب العربية القديمة على نسخها
مع هذا يقدّم الكتاب خدمة مهمة لدارسي اللغات واللهجات إذ احتوى على مفردات تكاد تكون قد انقرضت أو تحوّر ايقاعها اللفظي في الممارسة اليومية لدى سكاّن صنعاء والتي صارت مقصدا لمعظم أبناء اليمن يلهجاتهم المتعدّدة. فالحكايات كما تبدو دوّنت في بداية القرن العشرين إلاّ أنّ قصصها تعود إلى قبل ذلك بسنوات وربما إلى قرون، فنجد مثلا ذكر الوالي العثماني على صنعاء سنان باشا في قصص كثيرة، في زمن يقترب من القرن السادس عشر، كما ترد أزمنة سابقة ولاحقة وأعلام مشهورون كشيخ صنعاء محسن معيض (ت 1881) والمهدي عبدالله (1836). وتدور أحداث القصص في صنعاء وإب والمحويت وتعز ولحج والمخا والحديدة وغيرها. وبعضها يذهب بعيدا إلى السِّند في الهند حيث نقرأ قصّة هروب الأميرة الهندية وزواجها من يمني. وجميع القصص يتداخل فيها التاريخي والواقعي بالخيالي والأسطوري.
ومن تلك الحكايات اللافتة حكاية "دراهم الحاج" التي تبدأ بالقول "أخبرني رجل ثقة" مع أن المحتوى يحفّز على الشك لغرائبيته، فالحاج الذي ذهب للحج إلى مكّة يضع ماله لدى أحد الأشخاص الذين يثق بهم فيتفقان على وضع المال بحفرة في إحدى غرف المنزل حتى إذا مات أحدهما يمكن إيجاده بسهولة، ولأنّ الشخص الذي وُضعت عنده الأمانة غيّر المكان الذي خبأ فيه المال فإن الحاج حين عاد لم يعرف مكان ماله بعد أن مات صاحبه، فأضطر بعد جهد في البحث إلى اللجوء لامرأة تدعى (المِسَفِّلَة) والتي تشتهر بالحديث و التخاطر مع الموتى أو تحضير أرواحهم. فيبوحون لها ببعض الأشياء إذا ما سألتهم عنها. وهو ما حدث مع هذا الشخص الميّت الذي عرفت منه مكان المال لتحصل بعدها على مكافأة من الحاج العائد.
هناك قصص غرائبية مشوقة وأخرى واقعية فيها الكثير من التأمل والحكمة اعتادت الكتب العربية القديمة على نسخها، فهناك قصص عن البخل والأمانة والأبوّة وقطّاع الطرق، وعن لصوص وأصحاب حيلة متميزة في أزمنة قديمة، نشعر مع السارد لها بالتحسر "فقد سار من كلّ شيء أحسنه حتى من السرق"، وفيها نكتشف كيفية إعمال الحيلة لتنتصر أمام القوّة. كما نعرف العلاقات الاقتصادية وقتها بين ملاّك الأراضي والمستأجرين منهم أو العمّال لديهم واختصاص يهود اليمن في صياغة الفضّة وعلاقة المرأة بالرجل.
ومن ذلك أخذ مسؤولو الدولة مكافآت من الأهالي مقابل خدماتهم في الأمن وتتبع اللصوص والجناة كما حدث مع سنان باشا وقاضي القضاة محمد الشوكاني، وعاقبة التمسك بالعادات ولو كانت سيئة كالوصية بقتل المولود إذا كان أنثى. أو تلك التي تحفل بالمفارقات كقصّة الرجل الذي بقي طوال عمره زاهدا بالنساء وحين تزوّج خانته زوجته، وهناك قصص تتداخل فيها الاعتقادات الشعبية بالسحر والحسد وفن الاحتيال. إضافة إلى معرفة عادات اجتماعية صارت غير موجودة كذهاب أهالي مدينة صنعاء في الخريف إلى المناطق المجاورة، حيث كان يقال عنهم إنهم ذهبوا "يخترفوا"، كما هو الحال الآن في الحديث عن الذين يذهبون لـ "يصيِّفوا".