الرياض: تواصل وزارة الثقافة السعودية للعام الرابع على التوالي عملية إبراز عناصر الهوية الثقافية السعودية، بتسمية العام 2024 بـ"عام الإبل"، احتفاء بقيمتها الفريدة في حياة أبناء الجزيرة العربية منذ فجر التاريخ حتى اليوم.
ومثلما شهدت الأعوام السابقة العديد من الفعاليات الخاصة بالخط العربي في 2021، ثم القهوة في 2022، ثم الشعر العربي في 2023، تسلط وزارة الثقافة هذا العام النورَ على القيمة الرمزية للإبل في الموروث الثقافي السعودي، عبر مبادرات تشمل أنشطة فنية وثقافية متنوعة، بما يعزّز حضور هذه القيمة على المستويين المحلي والدولي، باعتبارها مكونا أساسيا في البناء الحضاري.
لدلالات علاقة العربي بالإبل صور شتى، تمثل كل صورة منها قيمة ثقافية ترتبط بمناقبه وأعرافه وأنماط عيشه، فامتلاك الإبل وركوبها والسفر بها وشرب لبنها ونحرها للضيوف واستخدامها في الحروب وصناعة الهودج وتزيينه، كل ذلك إنما يعبّر عن سيرة العربي ورحلته عبر التاريخ، وما يرتبط بها من قصص وأساطير وأشعار.
أصبح بقاء الإنسان العربي في الجزيرة العربية ذات البيئة الصحراوية مرتبطا بوجود الإبل
عبد الكريم العتيبي
يرمز كل شكل من أشكال العلاقة مع الإبل إلى خصلة من الخصال العربية، لتشير هذه العلاقة إلى العزة والكرم والشجاعة والنخوة والتفاؤل والحنين إلى الديار، مما يوضح مكانة الإبل الثقافية، كأنها ترتبط بالمفاخر العربية كلها. يقول لسان الدين بن الخطيب: "العربُ لم تفتخر قطّ بذهب يُجمع، ولا ذُخر يُرفع، ولا قصر يُبنى، ولا غرس يُجنى، إنما فخرها عدو يُغلب، وثناء يُجلب، وجُزر تُنحر، وحديث يُذكر، وجود على الفاقة، وسماحة بحسب الطاقة...".
أصالة الإبل
يلفت عبد الكريم جزاء العتيبي، أحد ملّاك الإبل والمهتمين بالموروث الشعبي السعودي، في حديثه لـ"المجلة"، إلى أن العلاقة مع الإبل متأصّلة في الموروث الثقافي والديني، إذ كانت الإبل عماد الحياة عند العرب قديما، لما حباها الله سبحانه وتعالى من مزايا وصفات وقدرات عالية على تحمل المشاق، حتى أصبح بقاء الإنسان العربي في الجزيرة العربية ذات البيئة الصحراوية مرتبطا بوجود الإبل، ولهذا تَغنّى بها شعراء العصر الجاهلي في أغلب أشعارهم.
وقال إن القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهرة قد عززا مكانة الإبل في حياة العرب، فالله سبحانه وتعالى ذَكر عظمة خلقها قبل ذكره عظمة خلق السماوات والأرض في قوله تعالى: "أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى ٱلْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ"، وكان لذلك دلالة يفهمها الإنسان العربي جيدا، وهو يرى العديد من الخصائص الجسدية المميزة للإبل في قدرتها على العيش دون ماء لفترات طويلة، أو قدرتها على شرب كميات كبيرة جدا من المياه، وفي قدرتها على العودة إلى مكانها بمفردها حتى لو بعدت عنه مئات الكيلومترات، وكان العرب قديما إذا ضلوا الطريق في الصحراء تركوا الإبل تَسير بهم حيث تشاء، لتوصلهم إلى موارد المياه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "الإبل عز لأهلها والغنم بركة والخيل معقود بنواصيها الخير".
وأضاف العتيبي أن الإسلام قد حدّد الديات بالإبل فجعل الدية تساوي 100 من الإبل، لكونها من الأموال النفيسة، كما حثّت السنة النبوية على التداوي بلبن الإبل، وقد وردت أحاديث عدّة في ذلك.
مدونة الإبل الشعرية الضخمة المتنوعة تحيل على كائن أسطوري مقدس، ألهم المبدع العربي، فاستنطق منه ما لا يُحصى من الموضوعات والدلالات
علي زعلة
الإبل والشعر العربي
ظلّ الشعر عند العرب يمثّل ديوان حكمتهم، وأصالة تاريخهم، ويعبّر عن قدراتهم الإبداعية، وبه حُفظت اللغة، وعُرفت المآثر والقيم، فرُسِمَت ملامح الهوية، وازدادت به ثراء وغنى، وهذا ما جعل للإبل حضورا بارزا في الشعر العربي، لا سيما في القديم منه، بل إن الشعر ساهم بشكل كبير في تحويل الإبل في الذاكرة الثقافية العربية من حيوان يعيش في الصحراء إلى قيمة رمزية لها مكانتها.
يقول الكاتب والناقد الدكتور علي زعلة لـ"المجلة": "عدّ ابن النديم في الفهرست 20 كتابا ألّفها العرب القدامى عن الإبل، وعلى الرغم من أن أكثر تلك المؤلفات مفقودة، ولم تصلنا إلا عبر مؤلفات وسيطة من أشهرها لسان العرب لابن منظور، إلا أن هذا الاهتمام الكبير الذي جاء في وقت مبكر من عُمر التدوين الثقافي العربي، يؤكد منزلة عليا للإبل في وجود العربي ووجدانه، وبخاصة في ديوان الأدب العربي الجاهلي، الذي لا يمكن الإحاطة به وعيا وقراءة جمالية وحضارية دون الوعي العميق بمدونة الإبل التي استغرقت حيزا واسعا من قصائده ومقطوعاته الشعرية والنثرية، ومروياته وأخباره المبثوثة في الحِكم والأمثال".
وأوضح زعلة أن الإبل شكلت موضوعا شعريا أصيلا في الشعر الجاهلي، فمثلت الناقة بمختلف جوانب حضورها المتجذر في الحياة العربية القديمة مجالا للقول الشعري، فكانت كائنا موازيا للإنسان العربي، ابن الصحراء ومروضها، الذي وجد في الإبل مثاله وأسطورته، وواقعه ومآله، بكل ما في ذلك من إلهام وتحديات وحياة فريدة، فهي الرفيقة في الظعن والارتحال، والفخر والبطولة، وليس أجَلَّ من ذلك ما قاله طرفة من العبد:
فمَن مُبلغٌ أحياءَ بكرِ ابنِ وائِلِ
بأَنَّ ابنَ عبدٍ راكبٌ غير راجِلِ
على ناقةٍ لم يركبِ الفحلُ ظهرَها
مُشذَّبةٍ أطرافُها بالمَناجِلِ
وأشار زعلة إلى أن الإبل مثلت مكونا أساسيا في التجربة الإنسانية العربية الفردية والجماعية، إذ هي المهرب من الهم، كما كان المتلمس الضبعي يهرب من همومه على ظهر بعير أو ناقة ويقول:
وقد أتناسى الهم عند احتضاره
بناجٍ عليه الصيعرية مكدمِ
كميتٍ كناز اللحم أو حميريةٍ
مواشكةٍ تنفي الحصى بملثّمِ
وعليها ترحل الحبيبة، وعليها يلحق العاشق ركب محبوبته وأهلها، وبها قد يُكرم الجميلات، كما فعل امرؤ القيس بن حجر:
ويوم عقرتُ للعذارى مطيتي
فواعجبا من رحلها المتحمل
فظل العذارى يرتمين بلحمها
وشحم كهداب الدمقس المفتّلِ
والناقة الرفيق المساند في التغلب على التحديات وتحقيق الأهداف، لدى عدد كبير من الشعراء، من بينهم المرقش الأكبر الذي قطع على ناقته الصحراءَ المنكَرة:
ودويّةٍ غبراء قد طال عهدها
تهالك فيها الورد، والمرء ناعسُ
قطعتُ إلى معروفها منكراتِها
بعيهامةٍ تنسلّ والليل دامسُ
وأضاف الدكتور علي زعلة أن "مدونة الإبل الشعرية الضخمة المتنوعة تحيل على كائن أسطوري مقدس، ألهم المبدع العربي، فاستنطق منه ما لا يُحصى من الموضوعات والدلالات والإحالات".
تشكل دلالة رمزية مهمة في الثقافة السعودية، تعبّر عن أصالتها، وتعكس ارتباط السعودي ببيئته
عبد الهادي صالح
الإبل في الثقافة السعودية المعاصرة
وعمّا تمثله الإبل من قيمة رمزية للمواطن السعودي، يقول الشاعر والباحث في العلوم الإنسانية عبد الهادي صالح لـ"المجلة" إن الإبل "تشكل دلالة رمزية مهمة في الثقافة السعودية، تعبّر عن أصالتها، وتعكس ارتباط السعودي ببيئته التي يعيش فيها، واعتداده الدائم بها، وهو ما ينطبق أيضا على النخلة والقهوة".
وأوضح أن تعدّد المسميات التي تطلق على الإبل يشير إلى تنوعها الوظيفي ومدى الارتباط بها وعظمة مكانتها، فالإبل يُطلق عليها الجمال والنوق والبعير والهجن والحاشي والقعود والبكرة، وتتفرّع منها أيضا أسماء تبعا لألوانها، أو لعلامات فارقة في جسدها، أو بسبب طباعها، ولكل وصف من هذه الأوصاف ميزة وظيفية سواء كانت للامتلاك، أو للمشاركة بها في السباقات، أو لنحرها للضيوف، أو لشرب لبنها.
بدوره، يبيّن عبد الكريم العتيبي، أحد ملّاك الإبل والمهتمين بالموروث الشعبي السعودي، أن الإبل أصبحت لها أهمية مختلفة في العصر الحاضر، فالشعب السعودي "بات يهتم بها من باب الهواية والحفاظ على التراث، إلى جانب أهميتها التجارية، خصوصا بعد وجود العديد من الفعاليات الخاصة بسباقات الهجن أو بمزاين الإبل، مما جعل هناك اهتماما باقتناء النوادر منها".
ونوّه باهتمام ملوك المملكة العربية السعودية بالإبل وباقتناء النوادر منها، فإبل المؤسس الملك عبد العزيز، رحمه الله، كانت تسمى "الشرف"، وحرُص أبناؤه من بعده على امتلاك أفضل السلالات، ومعروف أن من بين أفضل السلالات الموجودة في المملكة حاليا الإبل التي كانت مملوكة للملك خالد، رحمه الله، وقد تواصل اهتمام ملوك وأمراء المملكة بالإبل وبرعايتها، حتى أقام ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان "مهرجان الملك عبد العزيز للإبل".
وأوضح العتيبي أن الإبل في المملكة العربية السعودية تنقسم نوعين، هما "المجاهيم" و"المغاتير"، والمجاهيم تسمّى أيضا "الإبل النجدية" وتتصف بسواد لونها، أما المغاتير فلها ألوان عدة وهي الوضح والصفر والشعل والشقح والحمر، مشيرا إلى أن الإبل الموجودة في المملكة تختلف عن الإبل في الدول الأخرى، وأن أصحاب الخبرة لديهم القدرة على تمييزها.
اختيار وزارة الثقافة للإبل كعنوان للنشاط الثقافي الوطني هذا العام يثبت للعالم اتساع المدى الثقافي للهوية السعودية
رانيا العرضاوي
الإبل والفن السعودي
ظلت الإبل حاضرة في الفنون السعودية المختلفة، في الشعر والفن التشكيلي والدراما، وتحتوي الذاكرة الشعبية السعودية على كثير من الأغاني التي تطرقت الى الإبل، كأغنية المطرب الراحل مطلق الذيابي "يا الله أنا طالبك حمرا هوى... بالي لاروح الجيش طفاح جنايبها"، وظل هذا الحضور حيا عبر الأزمنة المختلفة، وهذا ما نجده أخيرا في الفيلم السعودي "ناقة" للمخرج مشعل الجاسر، الذي عُرض في مهرجان تورونتو السينمائي وفي مهرجان البحر الأحمر السينمائي، واستطاع تَصدّر قائمة الأفلام الأعلى مشاهدة على منصة "نتفليكس".
يقول عبد الهادي صالح إن الأعمال الأدبية والفنية والأعمال المرتبطة بإبراز الفولكور والموروث الثقافي السعودي لا تخلو من الإشارة إلى الإبل وتوظيفها في النصوص الإبداعية، والتعبير عنها من خلال الرسم والصور الفوتوغرافية، مشيرا إلى أبيات للشاعر الراحل محمد الثبيتي: "يا حَادي العيسِ في تِرحالِكَ الأملُ، يا حادي العيسِ قد نفنى وقد نَصِلُ، قد يحتوينا سُهيل أو يرافقنا، u2028وقد يمدُّ لنا أبعادُهُ زُحَلُ، قد نحضن الفجرَ أو نحظى بقبلتهِ، وقد تجفّ على أفواهنا القُبَلُ، إذا انتهينا على الأيام حجّتنا، وإن وصلنا يغنّي الرَّحْلُ والجمَلُ، يا حادي العيس فلنرحل هلمّ بنا فالحائرون كثير، قَبْلنَا رحلُوا".
تسمية عام الإبل
تؤكد الدكتورة رانيا العرضاوي أستاذة النقد والأدب لـ"المجلة" أن اختيار وزارة الثقافة للإبل كعنوان للنشاط الثقافي الوطني هذا العام "يثبت للعالم اتساع المدى الثقافي للهوية السعودية، ويكشف عن أن التراث السعودي متنوع في تمظهراته وصوره"، مشيرة إلى أهمية ارتباط النشاط الثقافي والفكري في المملكة بعناصر الهوية السعودية، وبأصالة التراث الشعبي.
وقالت العرضاوي إن المواطن السعودي "يعيش اليوم وعيا تثقيفيا كبيرا في كل ما تقدّمه وزارة الثقافة من فعاليات وأنشطة، وبعدما عاش عام القهوة السعودية وعام الخط، فها هو ينطلق اليوم من بحر الشعر إلى مضارب الإبل، وهو ما سيُثري القيمة الفنية للإنتاج الثقافي هذا العام".